بعد 16 عاماً.. خلع البدلة الزرقاء، وغادر العنبر رقم 7.. القُميحة بثوب رمادي وعمامة مُسن... إلى مكتب الصحيفة

بعد 16 عاماً..خلع البدلة الزرقاء، وغادر العنبر رقم 7.. القُميحة بثوب رمادي وعمامة مُسن... إلى مكتب الصحيفة

- علي الضبيبي
كان زيد القميحة يلوِّح بيديه: «وداعاً»، وهو محمول على الأكتاف، ساعة مغادرته السجن وسط حشد من النزلاء.
لقد أمضى هذا السجين 16 عاماً في المركزي على قضية دين مشكوك في صحتها. لكنه حين حط قدميه على بوابة المغادرة، ظُهر الأحد الماضي، توقف عن السير وجاشت في أعماقه نهدة حزينة: «أوفففف!. كل هذه السنوات، ولم أعرف الحقيقة!!».
وقال ساعة زيارته لمكتب الصحيفة عصر أمس الأول: «لست سعيداً. لقد قبلت البقاء في السجن عقداً ونصف، على أمل أن تظهر الحقيقة؛ لكن للأسف لم تظهر، فقد خرجت وأنا مُدان في قضية كاذبة».
القميحة، وهو ثاني أقدم السجناء المعسرين، (بعد التهامي عبده شوعي النشري) حظيَ بتوديع غير مسبوق من قبل زملائه في السجن، الذين أقاموا، يوم خروجه، مأدبة غداء على شرفه. وكان يستقبل في أيامه الأخيرة أعداداً كثيرة من النزلاء بين مهنئ له وحزين على الفراق، فضلاً عن «مقايل» القات الجماعية إحتفاءً بهذه المناسبة.
في أول زيارة لي إلى السجن، في اكتوبر الماضي (رمضان) سألت «أبو بكر البيضاني» (أحد المعسرين) عن زيد القميحة وأحواله، فأجاب وهو خلف السياج الحديدي وسط ضجيج من السجناء وزائريهم: «مسكين! ما تشتي منه؟! حالته في تنك». وفي زيارتي التالية إلى السجن قصدت زيداً و«شوعي» كأقدم سجناء الحقوق الخاصة، فحال بيني وبينهما الإحباط عند شبك الزيارات. كان ذلك في يناير الفائت. لكن هذا الأسبوع بدا الأمر مختلفا.ً اتصل بي الأول: «اشتي أَلقاك ضروري واصنع منَّك تمثال.. أنا خرجت من السجن!». وجاء القميحة إلى مكتب الصحيفة وقد استبدل بدلة السجن بثوب وكوت رماديَّين، وعليه عمامة مسن ناهز السبعين، وكان مفرطاً في دعائه. فيما أمر الإفراج عن الثاني (شوعي) يستكمل إجراءاته النهائية.
وعلمت «النداء» من مصدر مسؤول أن «شوعي» حصل على حكم إعسار من القاضي المكلف بهذا الشأن، أكد فيه ضرورة الإفراج العاجل.
ودّع زيد القميحة السجن المركزي، وقد تجاوز عقده السابع، وعلاه الشيب والهرم. غادر المنشأة العقابية صُحبة اثنين من أبرز المعسرين واكثرهم مأساة: الشاب نبيل لطف كابع، الذي اقتيد إلى السجن قبيل زفافه بأسبوعين ليمكث في أحشائه عشر سنوات بحكم قضى بحبسه سنتين ونصف لا غير. والآخر: عبده سباعي، حامل الجنسية الفرنسية والمتحدث بلسانها، الذي أطفأ السجن عينيه قبل ثلاث سنوات؛ إذ أمضى فيه خمساً، على ذمة 2800 دولار وعام واحد. وطبقاً لرواية القميحة فإن شقيقة سباعي جاشت بالبكاء وهي تتلقف أخيها عند البوابة الرئيسية وقد فقد بصره. «أما أنا...»، يقول القميحة، «فلم أعرف الوجوه التي استقبلتني». ويضيف ومحاولاً حبس دموعه: «اتصلت بأولادي إلى تعز ولم يعرفوا صوتي».
وعن شوارع صنعاء وأماكنها، خاصة التي كان يرتادها، أقسم الرجل: «... والله ما في عليَّ زُغط في صنعاء إلا ودخلته أما ذالحين مش عارف أين أوجه!»، وتنهد وهو يمدد نظره على صنعاء من نافذة مكتب رئيس التحرير في الدور الرابع.
وسأله الزميل محمد الغباري عن سنوات السجن كيف قضاها. أجاب كما لو أنه غير آبه بها: «كانت أيام جميلة. ضحك ومرح طول اليوم»؛ فقد كوَّن صداقات حميمة مع عدد من النزلاء، وصار أحد أهم المدربين في معامل السجن وكبير النجارين فيه.
وكان لا ينفك عن ملازمة رفيق عنبره، عبدالله الشرفي، الذي لا يفارقه على الدوام، حسب أحد المفرج عنهم. والشرفي هو الآخر حُكم في منتصف التسعينات ب3 سنوات، وما يزال في السجن منذ ذلك التاريخ حتى الآن (تحديداً منذ 15 أكتوبر 1995)، والذي صار في أيامه الأخيرة إذا ما صدقت تأكيدات رئيس شعبة السجون بمكتب النائب العام، الذي أكد قرب موعد إطلاقه.
وأفرج الأسبوع الماضي عن السجين، عبد الجبار سعد العصامي، الذي نشرت «النداء» مأساته في بداية حملتها في اكتوبر الفائت، حيث قضى ما يقرب من الخمس السنوات وهو المحكوم ب3أشهر، وكانت الصحيفة زارت اسرته (زوجته وطفليه) إلى مسكنهم في أحد أحياء صنعاء القديمة، (غرفة واحدة) وعرضت اسمه في أكثر من عدد.
وأفاد مصدر مسؤول أن إجراءات الإفراج عن منصور الآنسي (8 سنوات)، وأيمن الصائغ، صارت جاهزة بعد توجيهات النائب العام، غير أن قاضي الإعسار ينوي تأجيلها حتى عودته من عمَّان التي قرر الذهاب إليها في اليومين القادمين لإسعاف ولده -حسب المصدر.
وتتابع «النداء» إجراءات الإفراج عن بقية السجناء المعسرين الذين حصلوا على أوامر إفراج لكن جهات نيابية تعرقل إطلاقهم بحجج بعضها واهية. وتأكد للصحيفة أن إجراءات تنفيذ أوامر النائب العام تسير ببطء متعمد في عدد من النيابات، وبصورة مؤسفة تعكس حجم إطالة التقاضي، التي حذر منها رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة.
تجدر الإشارة إلى أن هناك سجناء يعتبرون في حكم الأَسرى؛ إذ يقبعون في المركزي منذ سنوات رغم الأحكام القضائية الصادرة لصالحهم، بعضها من محكمة الاستئناف، كما في حالة حسن الهتاري الذي وجه النائب العام بالإفراج عنه قبل ثلاثة أسابيع فامتنعت تلك الجهات عن إطلاقه بمبرر أنه محبوس في قضية أخرى، معتقدين أن حكم استئناف الأمانة الذي كسبه الهتاري في 11/10/2004 يحتمِّ عليهم حبسه.
وينص منطوق الحكم (الاستئنافي) في هذه القضية على الإفراج عنه فوراً، وتقرير كيديِّة الدعوى المدنية ضده، «وعدم مشروعية الحبس، واستحقاق التعويض للمتهم (السجين/ الهتاري) لبراءته، وبطلان سند المطالبة»، لكن النيابة التي ألزمها هذا الحكم بالإفراج عن المحتجز، والتحقيق مع المدعي المدني بصورة عاجلة، بدلاً من التنفيذ زادت من أمد الحبس على جسد وحرية الهتاري، الذي ما يزال رهن الاحتجاز يصارع فيروسين: الكبد واليأس.
«النداء» حصلت على ملف قضية الهتاري، واتصلت بالنائب العام وأسمعته -عبر التليفون- منطوق الحكم الذي برَّأ السجين, فكوفئ بسنوات إضافية(!!) فوعد بإطلاقه.
وعلمت «النداء» من سميرة داود, رئيسة ملتقى 17 يوليو لأطفال وأسر السجناء -زوجة السجين -يوم أمس, أن النائب العام وجه رئيس نيابة شمال الأمانة بالإفرج عن الهتاري.
ومن المتوقع أن تحتفي والدته اليوم بمقدمه، وأن يفرح الأبناء بعودة أبيهم. ما لم تفرج نيابة الشمال عن إبتسامتهم.