اليمن وملفات المخفيين

اليمن وملفات المخفيين - عبدالباري طاهر

لم تعرف اليمن بشطريها جريمة الإخفاء قبل الثورة اليمنية: سبتمبر 62، واكتوبر 63.
 لا يعني هذا أن نظام المتوكلية كان عادلاً أو شفافاً، بالقدر الذي لا يعني أن الاستعمار البريطاني في الجنوب كان هو الآخر «غير قمعي»، فليس هناك ما هو أسوأ من قمع إرادة أمة وشعب.
يعرف الجميع مآسي القمع والقتل والاغتيال في صنعاء وعدن، فقد كانت الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى اليوم في صنعاء، والسبعينيات وحتى قيام الوحدة  1990 (في عدن) سنوات دامية في سجل حقوق الإنسان في كلا الشطرين.
واقترف النظامان «الثوريان» أو الثوري في عدن والرجعي في صنعاء، جرائم يندى لها الجبين، وتؤرق الضمير الانساني.
قبل النجدة القومية لمصر عبدالناصر، لم يكن الشمال يعرف الإخفاء. وكانت البداية الفاجعة على يد ضباط المخابرات المصرية، الذين نقلوا للجمهورية الوليدة في الشمال جرائم التعذيب، بصورته «الحديثة»، وبالأدوات الأكثر تطوراً وتقنية، وأساليب تحقيق وتعذيب لم تكن معروفة في المملكة المتوكلية القروسطية: الثيوقراطية والقبلية.
ومع احتدام القتال وتصاعد الصراع كان القتل والاغتيال والإخفاء والتعذيب هو الرد لمواجهة المعارضة السياسية حتى لو كانت سلمية.
كان المنشور السياسي، أو العمل الحزبي السري، أو الانشقاق عنه، أو حتى تقارير المخبرين يمكن لها أن تطيح بالرؤوس، وتجر الويلات.
وفي صنعاء أدى تزايد الصراع السياسي بين الاتجاهات اليسارية الماركسية والقومية والقوى التقليدية في حكم ما بعد 5 نوفمبر، إلى القتل بالعشرات وبمحاكمات جزافية، كما فتحت أبواب المعتقلات، وتزايد أسلوب الإخفاء.
وكان الاسلوب «المفضل» في الاعتقال أن يجري الاعتقال بما يشبه الخطف، ويخفى المعتقل حتى استكمال التحقيقات البوليسية، وانتزاع الاعترافات بالحق وبالباطل، وبالباطل أكثر. وخلال هذه الفترة، التي قد تطول أو تقصر حسب أهمية الشخص وطبيعة التحقيقات، ينكر الأمن وأجهزة القمع وجود «المختطف»، ثم يعلن عن وجوده، أو يسمح له بالظهور في مرحلة معينة.
في فترة الصراع الملكي الجمهوري 62-68 اختفى كثيرون ولم يعد أحد يتكلم عنهم لأن الملف يتضخم كل يوم بضحايا جدد.
وفي الجنوب وعقب الاستقلال 67 بدأ الصراع المرتدي أقنعة اليمين واليسار وما بينهما، مما أدى إلى اعتقال رئيس الجمهورية قحطان محمد الشعبي، ومقتل فيصل عبداللطيف، الشخصية القومية والسياسية الفذة. وتتالى مسلسل الدماء و الاعتقالات والخطف فقتل رجل الدين باحميش، وأبو جلال العبسي، وعشرات وعشرات. كما جرى تغييب أحمد سالم العبد، أحد الكوادر الناصرية والصحفية النشطة. ووصل القمع حد نحت مصطلح «اللحس»، ويعني من يراد تصفيته، أو قد تم لحسه، وكأنه قد ابتلع!
وأسهم الصراع بين الشطرين، وداخل كل شطر على حده، وتداخل هذا الصراع بالمحيط وبالحرب الباردة والصراع على الحكم، في توسيع دوائر القتلى والمغتالين والمختطفين. وخطورة الاخفاء أنه نافذة جهنمية للقتلى بدلالاته وأبعاده المختلفة. وهو أيضاً قد يجعل الضحية نسياً منسياً. وتبدو الذاكرة اليمنية من تتالي مسلسلات الحروب والفتن كالمعطوبة، وتنظر إلى الاختفاء كأمر مألوف واعتيادي.
اتذكر في حمى الصراع في صنعاء منتصف الستينيات، ابتداء الإخفاء، ومع تزايد الصراع داخل الصف الجمهوري.
أما عقب أحداث اغسطس، وانقلاب 5 نوفمبر 67، فقد انفتحت أبواب الجحيم. من يتذكر اختفاء مطهر عبدالرحمن الإرياني، الناشط في الحزب الديمقراطي الثوري في الحديدة في اعتقالات الثمانينيات؟! وفي صنعاء يختفي في الفترة إياها مناضلون كبار وشخصيات عامة أمثال: سلطان أمين القرشي، عبدالوارث عبدالكريم، علي مثنى جبران، علي خان، عبدالعزيز عون، وطه فوزي، ورفاقهم. وما يزال مصيرهم مجهولاً وإن رجح إعدامهم في المعتقل دون محاكمة، شأن الصحفي النقابي البارز محمد علي هادي مقبل، الذي قتل تحت التعذيب في الأمن السياسي بصنعاء، وشأن الملازم حسن علي البركاني، الذي صفي بنفس الطريقة، ومحمد عبدالقاهر- المهندس الزرعي.
لا يستطيع شخص أو عدة أشخاص الإحاطة بملف فاجع وضخم من هذا النوع في بلد وحكم من نوع «هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟».
أحداث 13 يناير البشعة في الجنوب أكلت زهرة الشباب الحزبي اليساري في الاشتراكي بين طرفي الفتنة، كما أتت على كوادر بالعشرات وربما بالمئات من خيرة المثقفين والصحفيين والأدباء والكتاب ومؤسسات المجتمع المدني.
أما ضحايا ومخفيو حرب 94، خصوصاً في صفوف الجيش الجنوبي، فقائمتهم طويلة. وقد قام العزيز والصحفي المقتدر والكفؤ حسن عبدالوارث، مدير تحرير «الثوري» حينها، بفتح ملف المخفيين «عبر القائمة الزرقاء». واستطاع بشجاعة ومهارة واقتدار وبحث دائب، تسجيل وتدوين أسماء العشرات من هؤلاء المخفيين.
إن محنة المخفي أنه « لا بالحي ولا بالميت». فيظل مصدر هم قلق وحزنٍ دائم لأهله وأقربائه والأصدقاء. كما أنه يحرم من التكريم ومن حقه وحقوق أسرته.
حسناً فعلت «النداء» ورئيس تحريرها سامي غالب، بفتح ملف المخفيين الذين حرموا من حقوق الحياة وحق الموت، وظلت أسرهم تنتظر العائل والحامي والملاذ.
وقبلها فتحت الصحيفة صدرها للتحقيقات المهمة للصحفي الشاب علي الضبيبي عن السجون والمساجين، والمعسرين بصورة أخص.
وقصة السجون في اليمن فصل من فصول مأساة حياة تاعسة وشقية تشبه في كثير من جوانبها «جحيم دانتي» (الكوميديا الآلهية). ويصدق فيها وصف القرآن الكريم لأهل النار «فإن له معيشة ضنكا». «ولا يموت فيها ولا يحيى»... الآية.
وحياة من شظف العيش والجهل والمرض عندما تغلى بكوارث الحروب والاعتقالات الكيفية، والاغتيالات، والاخفاء، والسجون المفتوحة كأبواب الجحيم، فإن هذه الحياة الواقعية جداً تصبح أكثر سريالية من أي رحلة أخروية. وتزري بكتاب «مشاهد القيامة في القرآن» لسيد قطب.
لا يعرف الناس حتى اليوم مصير عبدالرحمن بشر، أو زكي بركات، أو اسماعيل الشيباني، أو مصطفى رفعت، أو أحمد سالم الحنكي، أو محمد مهدي، ومحمد السيد، وعشرات بل مئات من قادة الأدب والصحافة والفكر في الجنوب. وليس المقصود إدانة هذا أو تبرئة ذاك، وإنما المطلوب فتح هذه الملفات، وإجراء تحقيقات محايدة ونزيهة ومجردة من الأدلجة والتسييس، والكشف عن مصائرهم، ثم رد الاعتبار لهم واعتبارهم شهداء وضحايا الصراعات البائسة، وإيضاح الحقائق لأُسرهم وللرأي العام، وتعويض الأسر التعويض المناسب ورعاية عائلاتهم وأسرهم. نفس ماتفعله مملكة المغرب ومليكها دون تحرج أو خوف على سمعة أبيه.
وإذا كان النظامان قد تواطآ على دفن ملفات المختفيين لانهما والغان حتى الدماء، فإن الدولة اليوم هي المسؤول الأول والأخير عن فتح هذه الملفات، وتشكيل لجنة محايدة، والبدء في التحقيق، وإظهار الحقيقة والحق. وعلى أسر المخفيين والضحايا أن يتنادوا ويؤازوا الحملة الزكية التي تخوضها «النداء» ويوافوها بما لديهم لتستمر في التغطية.
وأن تتوسع دائرة الاحتجاج، والمطالبة بمعالجة أضرار ومآسي هذا الملف الدامي؛ لا لإنصاف الموتى والقتلى والمخفيين فقط, وإنما أيضاً لمنع تكرار هذه المآسي التي تتناسل من رحم الطغيان والفساد والاهمال، ومحاولات الطمس والإخفاء تحت مبررات خادعة وملتبسة من نوع دفن الماضي، وإحراق الملفات. في حين نلاحظ أن المآسي تتكاثر والملفات تتضخم، والثارات، والاغتيالات والاخفاءات ماتزال عملة رائجة ومتداولة.