عن صعدة، و غيرها.. أحوال اليمن محروسة بالصمت، ومُحيَّدة تجاه الإنفعال

عن صعدة، و غيرها.. أحوال اليمن محروسة بالصمت، ومُحيَّدة تجاه الإنفعال - ماجد المذحجي

تؤسس " الاحوال " في اليمن أسئلة كثيرة في الذهن، لا تغادر، اغلبها، منطقة السؤال المتوتره والمربكة، نحو الإجابات برحابتها، وماتُخلِّفه من اطمئنان!. فهي بالعموم، اسئلة أو أحوال، مُعتصمه بالإستغراب المرافق لها، ومُعادية للوضوح، ومفخخة أيضاً، بالتداخل الذي يُميز علاقة الاشياء والاحداث في الظاهر اليمني!. ويبدو أن هذا الصمت والتحفظ الشائع، الذي " يفرمل " الرأي الشخصي للفرد اليمني، او " الجماعة " اليمنية، ويحرزه في دائرة محدودة ومغلقة، يُفاقم من استغراق هذه الاسئلة في " ذاتها "، ولايؤدي بها إلى شيء مقنع، أو شافٍ (ويحضر الصمت في العادة، باعتباره من حسن الفطن!. وهو التقدير الشائع، الذي يتولد في الأساس اعتماداً على ذعر ومخاوف اليمني السرية، والتي تشكل عنصر صلب في شخصيته، وتتحكم بشكل ضمني - يتم انكاره - بادارته للعلاقة مع الآخر). ويبدو أن امتناع " الحوادث " في اليمن عن الإفصاح عن أسبابها، للأسئلة و " المخاوف " الملحة التي تُطاردها، يتأسس - في جزء كبير منه - على تقدير " الفاعلين " الأساسين فيها، والذي يفترض في العادة كونها ليست شأناً عاماً، حتى لو أحدثت " ضجيجاً "، و " تداعيات "، تستولي على الإنتباه، أو حتى رتبت " ضريبة " مُكلفة، ومباشرة، تمس المجموع العام، والذي تجري هذه " الحوادث " قربه، وتحت نظره، وتستولي على حيز واسع من يومياته!. هل تبدو حرب صعدة إذاً نموذجاً قريباً من ذلك؟!. فهي من نوع تلك الحوادث التي تتضخم في الإهتمام الجماعي، وترتب كُلف مُباشره على " الناس " اجمعين، وتستدعي " عصبية " تُكره المجتمع، والافراد، على الإنفراز في انقسامات " دموية " مُتقابلة وحادة، ورغم ذلك تمتنع عن " قول " شيء واضح يخص أسبابها!. ويبدو حتى الآن، ألا شيء يُعفينا من التخبط في الاستنتاج، و محاولة الفهم، و يُنقذنا من هذا الاستخفاف المستفز ب " ذكائنا " فيما يتعلق باسبابها، خصوصاً حين يتم عزو اشتعالها لشعار " الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل " فقط، وفق تبرير جماعة الحوثي؟!. أو لكونهم جماعة " متمردة " وخارجة على الشرعية، تُهدد الجمهورية، و تريد نسف منجزات " الثورة "!، و تستهدف استعادة النظام الإمامي " البائد " كما يُعمم الخطاب الرسمي؟!. وفي الغالب تتأسس التفسيرات الأخرى للحرب، في استطرادات الطرفين، على افكار غير مُحرره من العموميات، ومسكونه بـ"الخطابة"، وتستبطن " التجييش " للعموم. فهي وفق الحوثيين، لا تغادر أسباب مذهبية "زيدية" (لتحريض العصبية الطائفية والتعضد بها)، أو الايديولوجية كعمالة النظام لأمريكا وإسرائيل (لخلق تعاطف يستثمر العداء الشائع للرديفتين في الوعي العام، ويؤسس شرعية وطنية ودينية - بشكل ما - لموقفهم)، باعتبار ذلك الدافع فقط ل اشتتراس النظام عليهم، ورغبته باستئصالهم!؟. بينما هي في الخطاب الرسمي، مجرد "تمرد " (تأكيداً على شرعيته الدستورية، ونفياً لشرعيتهم العصبوية)، له ارتباطات خارجية تموله وتُحرضه (وهذا شأن وفق الأيديولوجية الوطنية، يخلق إجماعاً ضرورياً على " خيانتهم "، و يُعفي النظام من المُساءلة على أخطائه في هذه الحرب، ويشوش على مساهمته في أسبابها، ويؤيد نفيه لأي تبريرات أخرى لها)، بكل الخفه الفادحة الذي يتضمنها اقتصار تبريرات الطرفين " المتقاتلين " في تعليل ثلاثة حروب على ذلك!، وبشكل يُفصح عن قلة الانتباه المؤذية ل " الدم " الذي يُراق في صعدة. ويبدو ان امتزاج هوية الموتى (المناطقية والمذهبية) على الجبال القاسية هناك، كحال متحقق، لم يُخلف تأكيداً على الانسجام الاجتماعي بين الاحياء بل شرخاً نافراً بينهم، وهكذا يصير نفي أي دلالة إيجابية للموت الاعمى في " الحال " الاول، مُثبتاً بتأكيد الحقيقه " المرة " في " الحال " الثاني، كما يُشير " الواقع " الاجتماعي اليمني الآن.
في مستوى آخر، لايبدو واضحاً لماذا لا يُخلِّف " العنف "، وحوادثه (ممتدة كحرب صعدة، أو محدودة كموقعة آل عواض وسنحان) تداعيات " انسانية " واضحة على المجموع، سواء بصيغ الاستنكار الضاغط، او التبرم المحسوس، او إبداء الألم المُعلن. أي تداعيات، وردود فعل، تقع خارج المتن السياسي التعميمي المتداول، والذي يُفسد انفعال " الناس " الحقيقي، وينزع إلى إدماج " ضحايا " هذا العنف، ضمن مُفردات عامة وفضفاضة - حتى وإن كانت اعتراضية عليه - لا تثبت هوية واضحة للضحايا، كأفراد حقيقين، غير مُتخيلين، لهم إطارهم الإنساني المستقل عن العام (الشعب اليمني، المواطنين،... الخ). وهو تثبيت للهوية " الانسانية " يجعل الضحية حقيقياً فعلاً، يُحيل إلى حياة قائمة، بكل ملابساتها ومفرداتها اليومية، والبشرية، وليس مجرد رقم عارض في مصفوفات خبرية منتظمة، بما يُرتبه ذلك من شعور بفداحة العنف الذي خلف هؤلاء الضحايا " الحقيقين " بالنسبة للناس، ويُفكك حيادهم تجاه ما يخصه. إن هذا الصمت تجاه الاذى الذي يتركه العنف، يبدو مُفزعاً حين يُشير إلى اعتيادنا عليه، وإلى حيادنا المؤسس على صمت أخلاقي فج، واستغراقنا في الشأن السياسي، وانقسامنا حول بلاغاته المتناحرة فقط، مع اتخاذ مسافة آمنه، من أي مُشاهدة تؤدي إلى التوتر، والإنزعاج الشخصي، وهو شأن يحميه الحصار " الرسمي " للمعلومة والصورة الخاصة بحوادث " العنف "، كون إتاحتها ستؤدي إلى مُساءلتها (أي الدولة) عن الوظائف التي يُفترض ان تقوم بها، والتي تنهض ككيان متعاقد مع الافراد، اعتماداً عليها - والتي من أهمها احتكار العنف، واحتكار شرعيته، وتقييد استخدامه، وتنظيم التباينات والتضاربات في المصالح الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، قبل ان تؤدي إلى احتقان يولد العنف - مما سيربك شرعيتها، وصورتها العامة، وقدرتها على خلق الإجماع من حولها.
وأعتقد إجمالاً، ان ارتباك الافراد، و" المجتمعات "، امام ضغط الاستبداد، ونموذجه الثقافي، والقيمي، الذي يستأثر بكل مُفردات الخطاب العام، ووسائل التأثير المُتاحة، افسد مبادرتهم، وانفعالاتهم، ونماذجهم الأخلاقيه، ودفعهم لتسول مرجعيته " المنحرفة"، وإعادة انتاج قهره ضمن دوائرهم الصغيرة، وبناء استبدادهم الخاص، وحمايته بالصمت والتواطؤات، بكل العطاله الذي يُخلفها ذلك على التعبير، والانفعال الانساني لديهم.
maged