صناعة القرار الثقيلة - جميلة علي رجاء

صناعة القرار الثقيلة - جميلة علي رجاء

العوامل المؤثرة في صناعة القرار السياسي:
لا أدري مدى صحة القصة التي تقول إن الولايات المتحدة زرعت عميلاً في أعلى هيئة لاتخاذ القرار في الاتحاد السوفيتي سابقاً كانت مهمته الوحيدة أن يعرقل القرارات الجيدة و يفسد كل القرارات الصائبة المقترحة ويسهم في اختيار الشخصيات الضعيفة غير الكفؤة في الوظائف الهامة أو الحساسة... إلا أن العبرة من هذه المروية سواء كانت حقيقية أم وهمية، تبين أهمية العوامل المؤثرة في صنع القرار التي من شأنها خلخلة أي نظام سياسي لدرجة استخدامها كسلاح سري أو معلن على مدى قريب أو بعيد في إسقاط نظام حكم أو أيديولوجية ما.
ليس بالضرورة أن يكون هناك عميل لدولة أخرى لكي يؤثر سلباً على القرار السياسي، بل الأحرى أن تكون العمالة للجهل وموروث التخلف وللعصبية و التطرف والغلو وللمصالح الضيقة ومراكز القوى، على حساب المصالح العامة و الوطنية خاصة في ظل غياب الحقائق والمعلومات الصحيحة الوافية، وهي الأشد خطراً من حيث التأثير على صناعة القرار خاصة في الدول التي تمر بمرحلة تغيير وما يصاحبها من ارتباك، وهي الناخرة في صلب الدولة الحديثة في طور البنيان.
لذا تولي الدول المتقدمة صناعة القرار انتباهاً خاصاً من خلال ضوابط مؤسسية و مساحات من حركة المعلومات لصناعة القرار. لا يعني ذلك أن هذه الدول محصنة من القرارات الخاطئة، بل و كما قال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي والذي كان يزور اليمن مؤخرا: "بقدر حجم الدولة تكون فداحة خطأ قرارها السياسي". ولنا في العراق أسوة سيئة. فالمثير هنا أن الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر تحولت إلى دولة من العالم الثالث تخلت عن اتزانها المؤسسي لتتقمصها رغبة في الانتقام كيفما وأينما ِشاءت و أصبح العامل المؤثر في صناعة القرار هو الرغبة في الانتقام، وهنا كان سقوطها مروعاً أخلاقياً وسياسياً وعسكرياً.
 
أهمية صناعة القرار في بناء دولة اليمن الحديثة:
من الملفت للإنتباه أنني في جولة بحثية سريعة لم أجد دراسات بحثية حول العوامل المؤثرة في صناعة القرار اليمني عدا دراسة سياسية تحليلية أعدها السفير عبدالملك سعيد عبده، تناولت الحقبة الزمنية 1962-1978 أي منذ قيام الثورة حتى نهاية حكم الرئيس إبراهيم الحمدي.
ورغم صغر هذه الدراسة إلا أنها رصدت جملة من المؤثرات التي صاحبت صناعة القرار في اليمن الجمهوري بعضه تأثر بعوامل الاضطراب و الحرب الأهلية و التدخلات الخارجية بالإضافة إلى دور القبيلة و المؤسسة العسكرية والتجار و الشخصيات الاعتبارية.
أرجع الباحث بروز هذه المؤثرات غير المؤسسية إلى ضعف المؤسسات المسؤولة عن المشاركة الشعبية و إلى وضع دساتير متطورة ليبرالية في واقع متخلف مع غياب الرؤية السياسية الناضجة.
و رغم مرور أكثر من 44 عاما على قيام الجمهورية الأولى إلا أن بعض هذه العوامل مازالت هي المهيمنة. فكيف و لماذا يكون هذا هو الحال بعد قيام دولة الوحدة و التأكيد على دور مؤسسات الدولة وإعلان الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية الرأي وإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية ثم المحلية؟
في مقابل هذا الوضع هل هناك نجاحات مرصودة حققتها مؤسسات الدولة اليمنية والمجتمع المدني والإعلام المستقل أو الحزبي في لعب دور في صناعة القرار؟

ويصبح السؤال المطروح:
ما هو المنهاج الذي يتبعه صانع القرار في اليمن اليوم عندما يواجه إشكالية ما؟ وكيف يرجح حلاً على آخر عندما يكون عليه أن يختار بين البدائل المطروحة؟ وهل هناك تغير ما في هذا المنهاج؟ من يستشير؟ وإلى من يرجع؟ ولماذا يرجع إلى هؤلاء دون غيرهم؟ وهل هم نفس الأشخاص الذين يرجع إليهم في كل قضية؟ هل هم أهل الكفاءة؟ أم أهل الثقة؟ هل يرجع إلى حلقات مركبة وإلى مؤسسات الدولة المعنية؟ كيف يحصل على الحقائق والمعلومات التي تساند قراره وكيف تقرأ وتحلل وتوظف؟ ما هي المعايير التي تؤثر في صناعة القرار؟ هل هي معايير قيمية ثقافية منفعية؟ وأخيرا ما هي صلاحيات صانع القرار قانونياً وفعلياً؟
سؤال رئيس وتوابع أسئلة تحتاج بالقطع إلى مسح و تتبع وتقص وتحليل ليس في إطار مقالة صحفية متواضعة بل إلى دراسة مستفيضة هدفها في النهاية تحسين منتج القرار السياسي في اليمن و مرجعيته لمصلحة المشروع التحديثي ولخدمة التنمية و تنقيته من الانفعالية والعشوائية.

الأطر المؤسسية المساندة  لصناعة القرار:
إن الإطار المؤسسي يجب أن يمثل أحد أهم ضوابط و حلقات صناعة القرار و يتمثل مبدئياً في مرجعية مجلس النواب التشريعية والرقابي. إلا أن التحدي الأول الذي يواجه نوابه وكتله في الحالة اليمنية هو مدى أهليته لممارسة مهامه بكفاءة و بوعي وطني شامل مقابل الالتزام الحزبي. والتحدي الثاني هو استمراريته في التأثير على القرار السياسي كما حدث في حالة وقف التمديد لاتفاقية شركة هنت الأمريكية مع الأخذ في الاعتبار العقوبات التي ستعاني منها اليمن نتيجة ذلك, ووقف بيع البلك 53، وتعديلاته التي أدخلها في الاتفاقيات مع شركات النفط و الغار لمصلحة اليمن.
الإطار الآخر الذي يمكن أن يؤثر بفاعلية في آلية صناعة القرار يتمثل في مجلس الشورى، شريطة أن تطور مهامه لخدمة مجلس النواب فتكون تقاريره المقدمة من ذوي الخبرة و التكنوقراط المخضرمين محل اعتبار لدى أعضاء مجلس النواب. وتالياً أن يتحرر من امتنانه كونه مجلساً معيناً، إما عن طريق إعداد تقارير موضوعية أو أن يتم انتخابه فنقع مرة أخرى في مأزق وصول أعضاء لا تتوفر فيهم الخبرة أو الكفاءة.
 
المراكز البحثية:
تلعب مراكز الدراسات والبحوث أدواراً مؤثرة في صناعة القرار. بل إن الأحزاب السياسية الكبرى في العالم تنشئ أو تتبنى مركز بحثية لدعم قرارها.
في إحدى زياراته لليمن حدثنا د. عمرو حمراوي أحد كبار الباحثين في مؤسسة كارنجي للسلام الأمريكية، عن دور هذه الوقفية في خدمة الحزب الديمقراطي. تتميز دراسات وإصدارات المؤسسة التي يتابعها العديد منا خاصة ما يتعلق بالشرق الأوسط والديمقراطية والحركات الدينية والمرأة، بالمهارات البحثية المتطورة وسرعة التقاط قضايا الساعة. ولاشك أن الاستفادة الفنية من هذه المؤسسة لتحسين المهارات البحثية اليمنية ستعد مكسباً خاصة و أن فلسفة المؤسسة تتجه نحو الاستعانة بالباحثين المحليين في إنجاز الدراسات وفق معاييرها البحثية والعلمية. كما يمكن الاستفادة من خبرة المؤسسة في كيفية و آلية تقديم ملخص منتوجها إلى صاحب القرار.
 
المركز العام للدراسات و البحوث و الإصدار
وإذا كان حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم قد أنشاء في عام 1999 المركز العام للدراسات و البحوث والإصدار، ثم قام بدمجه في عام 2005 مع معهد الميثاق، إلا أنه ليس هناك مؤشرات تبين استفادة المؤتمر الشعبي العام المباشرة من هذه الجهود البحثية. وقد قام هذا المركز بإصدار العديد من الأبحاث و الدراسات منها خصخصة ميناء عدن و تقاريره الإستراتيجية الثلاثة المتميزة عن اليمن.
لا شك في أن مركز البحوث والدراسات الإستراتيجية التابع لمكتب رئاسة الجمهورية يلعب دوراً أكثر فاعلية من غيره على الساحة اليمنية في التأثير على القرار بسبب الثقة الممنوحة والمكتسبة لمدير مكتب رئاسة الجمهورية و الذي عرف بدقته ونظامه في الأداء. إلا أن من المهم التعرف على مساحة التأثيرهذه مقابل العوامل و مراكز النفوذ الاخرى. أما المركز الوطني للمعلومة التابع أيضا لمكتب رئاسة الجمهورية فلم تتح لي الفرصة للتعرف على طبيعة مهامه وفاعليته.
أما على المستوى الحزبي فإن مركز الدراسات الإستراتيجية و الذي من المفترض أن يساند توجهات حزب التجمع اليمني للإصلاح فليس هناك دلالات ظاهرة لتأثيره في صناعة القرار الحزبي بصورة مباشرة.
إن العوامل المؤثرة في صناعة القرار داخل الأحزاب السياسية اليمنية ستحتاج دون شك إلى مبحث خاص يتناول تركيباتها البنيوية و طبيعة أدائها السياسي والذي تأثر دون شك بعملها السري في مرحلة ما وبالثقافة الأبوية و الخلفية السياسية غير متسامحة أو مستوعبة للآخر بشكل جذري وهواجسها الأيديولوجية. إن المتغيرات التي بدأت تطرأ على الأحزاب السياسية اليوم نتاج ألاستحقاق الديمقراطي و نزولهم حلبة المنافسة السياسية الحقيقية كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تستوجب تغييراً ما في طبيعة صناعة القرار. ولا شك في أن الانتخابات والمؤتمرات الحزبية ستبرز قراءات جديدة خاصة مع بروز جيل جديد لا يحمل حقائب الماضي.
والتحدي الذي سيتمثل أمام القيادات الحزبية الجديدة و القديمة هو انتقاء خطاب يستخدم مفردات و سلوكيات الاعتراف بالديمقراطية والتعددية، وفي انتقال الخطاب من الخطاب الحزبي الحصري إلى خطاب عام.
عناصر أخرى يجب أن تسهم بشكل ما في صناعة القرار تتمثل في النتاج البحثي للجامعات اليمنية و التي لا توجد فيها مراكز بحثية حتى الآن، وزارة التخطيط و التعاون الدولي خاصة و أن معظم أغلب الأجندة السياسية ترتبط بأجندة المانحين و التنمية، وزارة الخارجية وما يصب إليها من تقارير السفارات، القطاع الخاص و الممثل في غرفة التجارية.و لعل ما سيخلص إلية موضوع ضريبة المبيعات سيظهر مدى تأثير هذا القطاع على صناعة القرار كما أظهر حاليا تذبذبه.
وإذا كانت بعض منظمات المجتمع المدني اليمني الناشئة قد صعَّدت بعض قضايا حقوقية على أجندة صناع القرار بالتعاون مع الصحف المستقلة و الحزبية، إلا أن عدم استقلالية البعض الآخر وعدم ترسخ مفهوم ودور المجتمع المدني، سيشكل عقبة أمام أن يصبح أحد الأرقام الصعبة عند صانع القرار.
و تبقى المؤسسة العسكرية ثم الأمنية بشقيها: الأمن السياسي و الأمن القومي، لتثير الريبة في كيفية تدخلها في التأثير في صناعة القرار خاصة و أن مهامها غير واضحة و محددة كلاً على حدة ليكون المدخل هو أن هذين الجهازين هما من أجهزة الدولة الرسمية والتعامل معهما يكون وفق ذلك ووفق طبيعة مهامهما التي تتسم بالسرية وشريطة أن يخضعا للرقابة و المحاسبة شأنهما ِشأن بقية أجهزة الدولة مع المطالبة بتطوير أدائهما و تدريب كوادرهما في إطار توجه الدولة نحو الحكم الرشيد و الديمقراطية و ما يصاحبها من مساحة حرية في التعبير عن الرأي.
 
دور مقايل القات في التأثير على صنع القرار:
دور مهم و مؤثر في صناعة القرار فهي تشبه النوادي الخاصة للأعضاء المشتركين وفي المصالح و النفوذ و المنتسبين. تسهم في تشكيل القرار السياسي و ترجح هذا على ذاك في قرارات التعيين في الجهاز الإداري. وإذا كانت بعض الأبحاث قد درست القات علمياً من حيث أضراره و فوائده الصحية والاقتصادية فحتى الآن لم يتم دراسة ديناميكية مقايل القات في الصمود أو التغيير الاجتماعي ولا دورها في الماضي و كيف تطور في الحاضر ولا في كونها أحيانا منتديات ثقافية وأماكن للفضفضة والعلاج النفسي ولا أخيرا دور بعض المقايل في تشكيل القرار السياسي.
إنها حقاً صناعة ثقيلة ثقلها يكمن في تحمل نتائج القرار و التي أصبحت لا تعفي صاحب القرار و صاحب صاحب القرار من المسؤولية. و كلما كبر القرار كلما زادت مسؤوليته.