"القاعدة" تدفع الملايين شهرياً للنظافة والتحسين: "النَّمِر".. حكايةُ مدينةٍ موبوءة!!

"القاعدة" تدفع الملايين شهرياً للنظافة والتحسين: "النَّمِر".. حكايةُ مدينةٍ موبوءة!!

- القاعدة - يحيى هائل سلام
ليست فضيحتهم الوحيدة، ولا وباء المدينة الحصري؛ لكنها الصدارة بوحي العلانية المفرطة، وامتياز الإشهار بلا خجل، السوأة حين تتبدى فوق طبقة الإسفلت، على شكل فيضان مجارٍ كريه، يوزع الأذى قسمةً بين العابر والمقيم، يسد الطريق العام، وفي حيزٍ ما، يحوله إلى مصيدةٍ ذكيةٍ للمَركباتْ.
ثمة مركبة أنيقة بيضاء اللون. على المركبة كامل أسرة تقصد أيام العيد في اتجاه مدينة تعز. المركبة شبه العائمة ضمن طابور مركبات في فيضان القرف، تمشي الهوينا. فجأة.. يسقط جزؤها الأمامي في غياهب حفرةٍ مغمورة، بدون رافعة، لا فكاك من المصيدة!!
المشهد اعتياديٌ ومألوف، اعتياديةَ الشارع العام وسط مدينة القاعدة على المجاري الطافحة. والروايات العيان لديمومة الوباء، ومشاهد المصيدة كثيرة. ما هو قليلٌ، مملٌ وبلا جدوى. الجواب الهارب من التقليدية الحاضرة في السؤال: من المسؤول؟!
"ليست مسؤوليتي. إنها مسؤولية مؤسسة المياه والصرف الصحي"، يقول مدير صندوق النظافة والتحسين بالمدينة. وترد المؤسسة: "إلى الآن ليس في القاعدة شبكة مجاري لنكون مسؤولين عنها. مكتب التحسين ومكتب الأشغال يمنحون تراخيص حفر البيارات. في حوزتهم مركبة خاصة بشفط مياه المجاري، يتقاضون أجرها من المواطن. الآن يتنصلون من المسؤولية! هذا عيب!!".
المجلس المحلي، وعلى لسان رئيسه، العقيد عبد الولي السبلاني، يضع حداً لجدل المسؤولية: "هي مسؤولية الجميع، لكن المساءلة لمكتب الأشغال ومن قبله صندوق التحسين! المجلس لا يتصرف بشىء من عائدات الصندوق، فكلها تذهب إليه، كذلك المركبة المخصصة للمجاري وعائداتها تحت تصرف الصندوق. في المقابل لا بد أن يفعلوا شيئاً لتجاوز مشكلة الشارع العام. هذا الأسبوع اتخذت إجراءات صارمة، وسوف تحل المشكلة".
لكن حسن علي، وكغيره من أصحاب المحلات التجارية في الشارع العام، على ضفاف القرف، غير متفائل. "سنوات والبول والخرأ، بين عيوننا، أمام السارح والراجع، قد هي فضيحة القاعدة، وفضيحة المسؤولين. لو هم حق عمل قد عملوا أمس قبل اليوم، لكن كلما احتركوا قالوا: اين "النمر"؟"!!
آه، آه!! "النمر"، أو محمد عبده الشاعر، رجلٌ يدب في تيه الأربعين. بشرته سوداء. تفاصيل أيامه تختزل حكاية المدينة الموبوءة.
في مقابل (11000) ريال نهاية كل شهر، على "النمر" تخليص المكان من دورة الفيضان المتجددة. بقضيب حديدي طويل ونحيل، يناوش "النمر" عبّارة المياه على جانب الطريق الإسفلتي. أحياناً كثيرة، تمر به من ساعات اليوم سبعٌ أو تزيد، وهو في قلب الفيضان، يمرغ جسده في الوباء. أثناء ذلك قد يعوزه ثمن الصبوح. لكنه يجابه بالرد: "ما به إلاّ قحوف!!".
في حضرة المشهد، ما من أحدٍ يتحسس آدميته، يقتفي أثر الوباء متغلغلاً في مسامات الأرواح، بل على العكس، يُتداول الإعتقاد: "النمر ما يمرضش أبداً لأن جسمه قد تعود!". لكن الحقيقة غير ذلك: "والله إننا أمرض، وأدي نص المعاش، وزاريت (بعض) حيان يروح المعاش كله حق علاج. هاه ابصر، قد كان جسمي كله هكذا، طُبَع سع (مثل) الجَرَبـ". بهذه العفوية يهزم "النمر" بجاحة الاعتقاد الجمعي.
أسأله: طيب برأيك إيش الحل لهذي المجاري؟  يجيب: " قد انا أقول لهم: يجي الشفاط يشفط، وانا بعدين عليَّ أفتح العبّارة! لكن لا! يقولوا لك إلا انزل، ما يكفيهمش قد انا بالوسط، عادهم يشتوني أغطس، طيب أقول لهم إدوا ماطور يشفط! يقولوا لي دبر ماطور! وانا من اين زعم ان البيس حق التحسين معي، هذا قد هو جنان (جنون)"!!
حقاً! إذا كان قد أعجزهم الحل النهائي، فهل بالضرورة، لا بد من تمريغ آدميتنا جميعا بشخص "النمر" في الوباء!؟ لماذا لا يكون المؤقت: الشفط؟، لأنّ المركبة الخاصة قد فسدت، وانتبذت هامشاً على الطريق العام، هذا هو التعليل.
لكن ما وراء التعليل، فضيعٌ ومشينْ! رسمياً فإن ملايين الريالات تصبها المدينة في وعاء صندوق النظافة والتحسين. مبالغ أخرى طائلة، لكنها غير معلومة القدر، لأنها غير قانونية تذهب إلى صندوق النظافة والتحسين بالمدينة بمقتضى عقود إجبارية. كل تلك، هل عجزت عن إصلاح المركبة؟!  فليكنْ! عائدات المركبة ذاتها خلال الفترة الطويلة الماضية (2000)ريال عن كل بيّارة، وتصاعدت في الآونة الأخيرة إلى (3000) ريال؛ هل ظلت طريقها إلى الصالح العام؟! حتى إلى المركبة لم تلتفت؟، أين تذهب إذن؟! وكم مقدارها بالضبط؟!
الدهشة هي خيار التلقي الوحيد للجواب. يقول عبدالله إبراهيم الصلوي، وهوعضو المجلس المحلي و المسؤول المالي لصندوق النظافة والتحسين بالمدينة: "عائدات الشفاط لا تمر عبرنا، ولا نعلم عنها شيئا ً، كل ما يتعلق بالشفاط يتم عبر مدير الصندوق، فاسألوه، وأعتقد أنه مؤخراً قد أعاد الشفاط إلى مكتب الأشغالـ".
"يعمروا به فللـ".. "النمر" كان حانقاً، وهو يلقي إلينا بتلك العبارة، كما لو أرادها، أوهو أرادها جواباً للسؤال وممحاة للدهشة. كان حانقاً  لسبب سيرويه، دون أن تبطل معرفته العجب، العجب من السبب: " أجا المدير لعندي وانا أشتغل، قال لي:  خليك الرجَّال يصورك وجزع، لمو ما كاردكوش (طاردته)؟ ذلحين خلُّه يصرف لك هو معاش، ما عندنا لا عاد معك شغل، ولا عاد معك معاش"!!
ويضيف "النمر": "الآن قد لي أربع أيام بلا عمل، إلا أقضِّي هنا وهنا بالمصاريف، الله كريم، وشا راعي لاخر الشهر، وقت المعاش، وابصر كيف"!!
عقاب "النمر"، إذن، هذا، هو كل ما قدرت عليه العضلات، لأن عدسة التقطت صورة الرجل، أرادته بتمرغ جسده في الوباء، لا مجرد شاهد على فساد ضاقت به الممرات الضيقة، فطفح وفاض على الطريق العام، ولكن أرادته أكثر من ذلك، حاكياً للمكان الموبوء، ضمائرنا الممسوخة، آدميتنا المشوهة...
هنا، والآن، تتقلص مساحة الصالح العام في الكتابة، وتتفرد ينبغياتي الخاصة بكامل المساحة: فليستمر فيضان الوباء، وليقتلع طوفان القرف المدينة وكل مدن العالم، لكن، لا يعود "النمر" نهاية الشهر على عروسه الجديدة، وأولاده الثلاثة (قاسم، أحمد، صدام) بلا مرتب!!