تبشير المسلمين بالإسلام أو الاضطهاد الديني في صعدة

تبشير المسلمين بالإسلام أو الاضطهاد الديني في صعدة - أبوبكر السقاف

السلْم في لواء صعدة الدامي يبدو أضرى من الحرب. وهي الحال نفسها في الجنوب، فالحرب لم تضع أوزارها، بل هي سادرة في إضرام نارها بلهيب هادئ الوقع، يجرِّع المواطنين، هنا وهناك، ألواناً من ما يمكن أن يسمى: تمييزاً، هو في جوهره اضطهاد يطال الأرواح والأبدان. فالقراءة -حتى غير المنتظمة- لأخبار هذه وتلك الاصقاع تُخلِّف أثراً مريراً في الفهم والذاكرة معاً.
الاضطهاد الديني في منطقة صعدة يبدو منهجياً وليس أمراً عابراً تجيء به نزوة وتذهب به أخرى. فمنذ نهاية الحرب وما سمي بالعفو، ورحى السلطة تطحن حياة الناس، وتنال من أكثر المشاعر حميمية وسراً، وهو ما تصفه صحيفة «الأمة» قائلة إن السلطات العسكرية التي تصدت لحروب صعدة الثلاث أصبحت «تتبنى عملية التضييق الفكري والمذهبي على مواطني صعدة ومعتقداتهم ومساجدهم التي تتعرض للمصادرة واستبدال خطبائها وأئمتها بأشخاص ينتمون إلى السلفية التكفيرية* برغم معارضة وعدم قبول الأهالي، غير أن فرض سياسة التمييز الديني تتم بالقوة العسكرية، حيث تعرَّض مسجد الإمام عز الدين بن الحسن في مديرية ساقين قبل أسابيع لفرض خطيب من معهد دماج، بالقوة العسكرية والترهيب الذي لا يزال سارياً حتى اللحظة» (الأمة العدد 386، 25/10/1427 و16/11/2006).
عندما يفرض التمييز بالقوة يصبح اضطهاداً دينياً سافراً ويتم في أشد صوره عنفاً وقسوة. وهو أمر عرفه المسلمون في بداية الدعوة، وعرفه المسيحيون على يد الدولة الرومانية، ويزخر به تاريخ الصراع بين الفرق الدينية في اليهودية والمسيحية والاسلام. وما تسميه الصحيفة «التضييق الفكري» كان استهلالاً كئيباً سبق الحرب على أهل صعدة.. أقصد مصادرة «نهج البلاغة» من المكتبات العامة في صنعاء، مع أن الكتاب محل إجماع، تحترمه كل المذاهب، وجدير بالذكر أن الإمام الشيخ محمد عبده قام بنشره في مستهل نشاطه الفكري للإصلاح الديني، ومن المعروف أنه مالكي المذهب أشعري العقيدة، والمذهب الرسمي في مصر كان الفقه الحنفي.
إن الاضطهاد الديني ملمح مائز للسلفية التكفيرية، وكان لب اجتهاد محمد عبدالوهاب. وما ممارسات الدولة الوهابية في نجد والحجاز ونجران ضداً على المذاهب الاسلامية كافة، إلا فيض من ذلك الاجتهاد الذي قطع حتىمع التسامح النسبي الذي نجده عند ابن حنبل؛ لأنه اعتمد على «الحديث في بناء الشريعة وكتب رسالة مهمة في الصحابة وفضلهم». وقد انحدرت الوهابية من تشدد ابن تيمية، الذي تكوَّن في ظروف محنة سياسية حادة تزامنت وغزو التتار، ولا يصلح فكر الأزمة ليكون فكر أو فقه الأزمنة الأخرى كلها. ومن أعنف وسائله الفقهية أنه يعتمد على فكرة الولاء والبراء، التي قال عدد كبير من الفقهاء إنها انتهت بعد فتح مكة. ولا يزال كل فكر متشدد، بما في ذلك فكر أصحاب القاعدة، يجعل الولاء قرين المحبة، والبراء قرين الكراهية، وهذا يفسر حدة الطبع وجفافه عندهم.
ما تقوم به السلطة في صعدة يدخل في إطار الاضطهاد الديني، ولا يحتمل أي تفسير آخر. وأي تلطيف يشذب نابَهُ وظفره، لا يساعد إلا على حجب الحقيقة. وتعرفه المواثيق والعهود الدولية -التي وقعت عليها الدولة اليمنية- التي ترفض أي مس بحرية العقيدة والضمير وبالوسائل والشعائر التي تمارس وفقاً لها العقيدة، وتجعل احترام العقيدة وممارستها واجب الدولة الأول في مجال الحريات.
وأما ما نشر في صحيفة «البلاغ» لا يترك مجالاً للشك في أننا أمام ظاهرة اضطهاد ديني مكتملة الأركان، تفرض رجل الدين و طريقة أداء الصلاة ومكانها وإلا اعتبرت الصلاة باطلة، ويترتب عليه اعتقال «المواطنين» بتهمة عدم أداء صلاة الجمعة. وتتفوق السطة في بلادنا على أختها في الجوار بأنها استبدلت المطاوعة بالعساكر، وبذلك تبدو أشد حماساً في ممارسة الاضطهاد الديني. وهذا ليس عجباً فكثيراً ما يفوق التلميذ أستاذه.
«... القيادة الأمنية في اللواء (17) اعتقلت مجموعة من المواطنين بتهمة عدم أداء صلاة الجمعة. قام أبناء «مران» بالاتجاه يوم الجمعة 17/11 إلى جامع «ساتر» لأداء صلاة الجمعة على أن يكون خطيب الجمعة منهم زيدي المذهب خاصة وأن أبناء المنطقة هم كذلك. إلا أن القيادة الأمنية رفضت ذلك وحاولت إلزام المصلين بالخطبة المعدة من قبل اللواء 17 والتي سيلقيها خطيب سلفي تم إحضاره لهذا الغرض، ما دفع المواطنين إلى عدم الصلاة، وتفضيل الصلاة في منازلهم» أي يصلون الظهر، وهو جائز عند غير مدرسة فقهية. ويصف الخبر الخطيب السلفي بأنه «لا يكل ولا يمل عن سب مذهب المواطنين». وبذلك يصر اللواء 17 على الجمع بين أزيد من شرين: باحتمال الأذى، ورؤية وسماع خطبة جانية. وقامت القيادة الأمنية باعتقال:
1 - أحمد ناصر غثاية، 2 - ناصر علي ساتر، 3 - حمود أحمد غثاية، 4 - حسين غابش، 5 - صلاح رضوان، 6 - حسين سحان.
وكما في الحالات السابقة يطلق سراح المعتقلين «بضمانات وتعهدات»، وذلك يعني إدخال الضامنين والمتعهدين في دائرة الملاحقة. وهذا إجراء يتكرر في غير مجال، من الحصول على البطاقة الشخصية، إلى ممارسة العمل في مؤسسة عامة أو خاصة، وهذا تأكيد على أن المواطن غير كامل الأهلية قانونياً. ولكن الطامة الكبرى في هذه الأحداث اعتقال المواطنين بذريعة دينية، التعسف والقهر فيها واضح، وهي تستر القمع السياسي.
تذكر هذه الأحداث بما جرى في الجنوب بُعيد حرب العام 1994، في عدن ولحج وحضرموت، لأن فقه العدوان نفسه هو الذي يوجه أساليب القمع.
إن عدم اهتمام الصحافة والرأي العام بهذه الأحداث الخطيرة قد يعود إلى أن الحرب الحامية وحدها هي التي تعتبر جديرة بالاهتمام. ونحن في واقع الامر أمام حرب لا تقل خطورة، بل لعلها في بعض أبعادها أشد إيلاماً من الرصاص وقذائف المدافع، لأنها موجهة نحو أكثر الأمور قيمة في كيان الانسان: عقيدته التي كثيراً ما يرى فيها علة وجوده ويتوحد بها فلا يتصور نفسه بدونها كائناً حراً ومستقلاً وقادراً، له حق الاختيار والرفض. والحرية في هذا المجال، كما في كل سياق آخر، واحدة لا تتجزأ، وهي إما أن تكون للجميع، وإما لا تكون، دون أدنى تفريق بين مذهب وآخر. وقد أصبحت الحرية الدينية في جدول أعمال السياسة دولياً، لأسباب عدة وأوطاننا العربية في المركز منها. هذه قضية كبيرة ويجب أن تخرج من منطقة الظل إلى النور.
3/12/2006
* لعل الأصوب: «استبدل بأئمتها وخُطابها أشخاصاً ينتمون إلى السلفية التكفيرية».