المقطع الثامن من: «أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب» - د. ياسين سعيد نعمان

المقطع الثامن من: «أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب» - د. ياسين سعيد نعمان

كان «السياسي العربي» صاحب عبدالمرتجي، عضواً في أحد المنتديات السياسية. وبسبب إعجابه الشديد بأفكار عبدالمرتجي فقد عرض على رئيس المنتدى فكرة أن يستضيفه في ندوة يتحدث فيها عن الديمقراطية. لكن رئيس المنتدى، الذي أخذته العزة بالإثم، راح يعاتب «السياسي العربي» على تحقيره للمنتدى على ذلك النحو الذي جعله يتجرأ على مثل ذلك الطلب. كيف لبواب أن يحاضر في تلك النخب الثقافية والسياسية التي يضُمها المنتدى؟!
لكن «السياسي العربي» أصر على فكرته، واستطاع بعد جهد كبير أن يقنع مجموعة من رواد المنتدى بالفكرة، والذين بدورهم أخذوا يقنعون رئيس المنتدى وفي ذهنهم التسلية ليس إلا.
في اليوم الموعود تقاطر رواد المنتدى إلى القاعة المخصصة للندوات، حتى اكتظت بهم القاعة، التي امتلأت عن بكرة أبيها، في مشهد لم تألفه منذ سنوات حينما استضاف المنتدى ذلك الرأسمالي «العصامي» الكبير الذي شيد مملكته التجارية من تجارة المخدرات، حتى أصبح يُضرب به المثل في العصامية التي يجب أن تستفيد منها الأجيال وهي تتأهب لولوج مرحلة الإنفتاح.
وبين المشهدين، يومذاك واليوم، توزعت إهتمامات الحضور بين باحث عن طريق نحو «العصامية» وبين باحث عن الأسباب التي جعلت بواباً يحاضر في السياسة.
لكن عبدالمرتجي، الذي فطن منذ البداية إلى حقيقة أن معظم هؤلاء المتعجرفين، كما كان يطلق عليهم، إنما جاءوا للتسلية، إستطاع أن ينتزع إعجاب الجميع. فبحاسته، التي لا تخيب، أدرك أن الصمت الذي ساد القاعة هو أبلغ تعبير عن الاهتمام بما يلقيه عليهم من أفكار.
وبعد أن أدرك هذه الحقيقة، بدأ صوته يتماسك، وأخذت الحيوية تعود إليه، وواصل حديثه:
- الديمقراطية المعروضة جنباً إلى جنب مع الهراوات الغليظة المصمَّمة لمكافحة «الشغب»، والصواريخ العابرة التي استبدلت وظيفتها بمكافحة الارهاب، هي القاعدة «الأخلاقية» التي تتولى حماية هذا «النقيض» المهزوم. أصحاب هذه القاعدة «الأخلاقية» لا يريدون من هذا «النقيض» سوى حرية السوق. لا يرون فيه أهلاً لأن يكون جزءاً من الحضارة السائدة، ولا يرون أن منتسبيه من العرب والمسلمين مؤهلون لأي شيء سوى لتقديم النموذج في قمع الطموح الوطني للحرية باشتقاق وسائل القمع من داخل هذا الطموح نفسه، وتخليق التبعية بأدوات فكرية يتم استدعاؤها من ثقافة الاستبداد التي انتكس معها الحلم القديم وصار يباباً تذروه الرياح.
التفوق الاسرائيلي معطى لا يجوز الخوض فيه عندما يتعلق الأمر بترتيب معادلات المنطقة.
أما لماذا هذا الإصرار على التفوق الاسرائيلي، وهل هو شرط لتكريس التبعية أم أنه نتيجة لها، فالحال هو أن هناك إلتزاماً امريكياً - أوروبياً بتحقيق هذا التفوق والحفاظ عليه، ناشئاً عن تقدير خاص للأهمية الجيوبوليتكية لهذه المنطقة حيث يتداخل التاريخي مع المعاصر مع شبكة من البواعث الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي تجعل الصراع مسألة لا تقف عند حدود معينة: كأن لا يقف -مثلاً- عند حدود المصالح المباشرة للأطراف التي تتحكم فيه، بل يمتد داخل تاريخ موغل من صراع الإرادات الذي لا يلتقي بترتيب المصالح على قاعدة الغَلَبة التي شهدها العهد الاستعماري، وإنما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.. يذهب إلى تهميش الآخر المهزوم، شطبه وتصفيته.
ولأن الصراع يدار من خنادق دينية لتأكيد أحقية اليهود في أرض فلسطين، فإن الحقيقة الدينية لا تقبل حقيقة أخرى إلى جانبها، هي وإن تعايشت معها لأسباب إنتقالية، إلا أنها سرعان ما تتجسد في صورة مواجهة بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الحلال والحرام، بين المقدس والمباح، لا وسط بين هذه النقائض يسمح بالتعايش، فالمهزوم هو الباطل وهو الشر وهو الحرام وهو المستباح، هو كل هذا الذي يجب أن يُشطب.
لكن عندما يكون هذا «المشطوب» شعباً بأكمله، هو صاحب الأرض، فإن عملية الشطب هنا تبدو مستحيلة، لأنها لا تسجَّل في تاريخ المعارك التي تدور على الارض إلا كفكرة جهنمية غير قابلة للتحقق خاصة حينما تصطدم بمقاومة عنيدة واستعدادات للموت من أجل البقاء.
ولأن «الفكرة» قد تبلورت عند محطات تاريخية من الصراع على هذه الارض، والذي أخذ في معظم الأحيان مضامين حضارية ودينية، فقد بدت أكثر تعقيداً من الفكرة الاستعمارية، واستقرت في نهاية المطاف عند اعتبار العرب والمسلمين نقيضاً للحضارة الغربية التي تمثلها «إسرائيل» في المنطقة، هذا الشرطي الذي يجب أن يظل متفوقاً حتى يتمكن من حماية تلك الحضارة من هذا «النقيض».
لكن هذا «النقيض المعتبر» كان قد أُنهك وخسر أهم معاركه على الإطلاق عندما قبل بفكرة «النقيض» تلك، أي «النقيض» للحضارة السائدة، دون امتلاك للحد الأدنى من شروط المواجهة.
فالنظام السياسي العربي هو امتداد سالب لهذا «الغرب» الذي تجذرت في ثقافته فكرة شطب هذا «النقيض» الذي يرفض حضارته ويهددها، كما يزعم.
كان على العرب في ظروفهم هذه أن يبحثوا بجدية عن إجابة مسؤولة عن موقفهم في هذا العالم الجديد: هل هم جزء من هذه الحضارة السائدة، أم أنهم نقيض لها؟ هل هم حضارة مستقلة، أم أنهم لا هذا ولا ذاك وإنما مجرد شعوب تتلمس طريقها داخل عالم متحرك يتقاذفهم الموج نحو شواطئ مجهولة لا يهمُّهم سوى أن تكون آمنة؟
ونحن نعرف أن لكل زمان حضارته السائدة التي لا يستطيع أحد أن يقف خارجها. لكن أن تصبح جزءاً من الحضارة السائدة لا يعني أن تفقد خصوصيتك. فالحضارة المؤهلة للبقاء هي التي تقوم على التنوع في إطار أشمل من المشترك الأساسي الذي يجعل الحضارة قيمة عالمية.
إذاً هذا هو جوهر المسألة في هذا الشتات العربي الذي جعل فكرة «النقيض» تبدو وكأنها قد غدت مبرراً للقمع الذي يتعرض له مستقبل هذه الأمة.
أنا من الداعين إلى أن نصبح جزءاً من هذه الحضارة- هكذا يصرح عبدالمرتجي فيهز القاعة بردود فعل متباينة. نستطيع أن نكون جزءاً منها مع الاحتفاظ بخصوصيتنا الثقافية، كغيرنا من أمم العالم. فالسمتان الرئيستان لهذه الحضارة السائدة هما: التطور العلمي والتكنولوجي، والديمقراطية. ولا يكمن المشكل -في تقديري- في التطور العلمي والتكنولوجي، فنحن في الأساس مستهلكين لجانب كبير من مخرجات هذا التطور، ولم نعد نتميز بشيء عندما يتعلق الأمر بنظام الحياة الذي يتشكل على قاعدة الاختراعات التي تقدمها هذه الحضارة للبشرية في ميادين: التعليم والصحة والمواصلات والاتصالات والكمبيوتر والانترنت والمعرفة بفروعها والتكنولوجياوالاستنساخ وعلم الجينات وربطات العنق والكريمات والاحذية والماكياج والعدسات اللاصقة وأسلحة الدمار الشامل...إلخ. أما عندما يتعلق الأمر بالجانب الآخر من القواعد التي تشكل نظام الحياة هذا فنحن العرب نسعى إلى أن نصبح جزءاً من السوق العالمي، بما يعنيه ذلك من إنفتاح وتشابك وتبادل وتبعية ومنافع مشتركة مع أهم مراكز هذه الحضارة. لكننا نريد أن نقف بهذا الانفتاح عند حدود الإقتصاد، في حين أن للإقتصاد وجهه السياسي الذي لا يمكن أن نغض الطرف عنه. أي أن طبيعة النظام السياسي في بلد ما يشكل عاملاً جوهرياً في هذه العملية التاريخية، باعتبار أن السوق الرأسمالي العالمي إنما هو نظام للقيم الرأسمالية، التي تشكل الديمقراطية حجر الزاوية فيها. ومقاومة النظام السياسي العربي للديمقراطية يُبقي اقتصادياته من الناحية العملية خارج هذه السوق بالمفهوم الذي يجعل منتسبيه أشبه بالغرباء الذين يفتشون عن ملاذ مؤقت.
نحن، هكذا غرباء لا ننتمي إلى هذا البيت الواسع الذي نحتل فيه غرفاً مستأجرة بقيمة ما نملك من ثروة، أو ما نرهنه من أصول أو مواقف.
ونحن عُرضة للطرد من هذا البيت في أي وقت لمجرد خطأ بسيط في التعامل مع الاستحقاقات التي يرتبها بقاؤنا المؤقت فيه.
هكذا نحن العرب -يواصل عبدالمرتجي- نحوم حول هذه الحضارة تائهين، نخطو نحو الهدف نصف خطوة، ونتعثر في النصف الثاني فيما نسميه خصوصياتنا التي لا نجد لها تصنيفاً محدداً يساعدنا على إعادة بنائها بالصورة التي تلبي حاجتنا للإنتماء إلى الحضارة العالمية.
هناك خصوصية لكل أمة، نعم.. لكنها لا تحول دون أن ينتمي الجميع إلى حضارة مشتركة. ألم تكن الحضارة الإسلامية في يوم من الأيام هي الحضارة السائدة؟! إحتضنت مختلف الثقافات والأمم بخصوصياتها التي تفاعلت في إطارها، بل وحمتها وأعادت بناءها في تناسق تام مع حاجة البشر إلى العلوم التي أنتجتها هذه الحضارة.. وعندما انهارت، كان ذلك من داخلها وليس من خارجها، و شتَّان، كما قلنا، بين أن يكون الانهيار من الداخل وأن يكون من الخارج.
إن الجوهري في بقائنا خارج الحضارة السائدة لا يكمن فيما يدعيه البعض من غيرةٍ على ثقافة الأمة وخصوصيتها، وإنما هو تعبير عن السير بهذه الخصوصية في طريق متعارض مع حرية الإنسان، الحرية التي فطر الله الإنسان عليها.
وأصل الحكاية هي أن خصوصيتنا صارت رديفاً للإستبداد، فهل يمكننا بعد هذا أن نبرر بقاءنا خارج الحضارة العالمية؟!