ديوان للبيع في أزمة الكتب

ديوان للبيع في أزمة الكتب

*مصطفى الجبزي
صديقي محمد الذي أعيش وإياه في ذات المدينة ولا أقابله إلا ما ندر، لكني أجده أو أتواصل معه عبر إحدى الشبكات الاجتماعية على الانترنت، صادفته ذات صباح غير بعيد على النت، وتبادلنا التحايا ومزحات خفيفة، ثم سارع إلى طرح سؤال. كان سؤالا مبهما طالما هو إجابة على سؤالي له عن حاله ليجيبني بجملته التالية: "عندي ديوان، أشتي أبيعه؟!".
الحقيقة أن صديقي المبدع هذا أحد المشتغلين بالثقافة والأدب، وقد أصدر لتوه ديوانا شعريا حظي بتقديم ثمين من أحد كبار الشخصيات الثقافية والأدبية في البلاد. ولا أستكثر عليه هذا لأنه جدير بكل هذا الاحتفاء. وأما جملته اللافتة فقد كانت تحمل أكثر من وظيفة؛ فهي جملة إخبارية؛ يعلمني بها توكيدا صدور باكورة أعماله الشعرية –حسب علمي– وكذلك استفهامية تعبر عن حيرته في واقع الأمر، فمفادها الاستفهام عن كيفية بلوغه بيع نسخ من عمله الشعري.
ساعتها قابلت هذا الحديث بمزاج رائق ومزاح ثقيل فيه من المديح ما فيه من اللامسؤولية. فقد رددت عليه بأن هذه الجملة هي قصيدة بحد ذاتها.
<<<
النشر سمة حضارية
كنت قبل هذا اللقاء بأيام قلائل قد حضرت ندوة في أحد المنتديات الثقافية في العاصمة صنعاء، ندوة لباحث فرنسي يتحدث فيها عن النشر في اليمن؛ واقعه ومؤسساته ولمحة عن تاريخه، وموقع الكاتب من هذه العملية، ليصل الباحث إلى خلاصة الإقرار بوجود أزمة تخص النشر والكاتب (هي أزمة توزيع وأزمة تسويق في آن). وفتح حديثه ذاك المجال لمداخلات شتى تطرقت للعلاقة بين اليمنيين والكتاب وفعاليات الكتاب كمعارض ومكتبات، وظاهرة كتب الأرصفة والجولات. باختصار، كل الحقائق التي ذُكرت في الندوة كانت باعثة على الإحباط. وفي خضم الحديث، حضرت صورة ما في ذهني. هي إعلان تلفزيوني ظهر إبان وعقب الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006، يظهر فيه طفل يبرز من بين الخراب ويطلب مساعدة: "أعد لي كتبي!".
هذه الصورة لوحدها جرحتني لما بها من مفارقة إزاء علاقة غير اليمنيين (من العرب على الأقل اللبنانيين كنموذج) بالكِتاب. واقع الكتاب في اليمن أكثر من مأسوي، ولن أخوص في تفاصيل وأرقام تؤكد ذلك، لأن الحقيقة واضحة للعيان. وهناك دراسات جادة أهمها تقرير التنمية (الصادر عن وزارة التخطيط والتنمية لعام 2004) بشأن الثقافة، وفي طياته من الأرقام المخيفة ما يكفي لأن "يشيب لها جناح الغرابـ".
<<<
عناوين ليس إلا
من الطبيعي أن عقولنا قد أثمرت مؤلفات قيمة اهتمت بحالنا وتدارست نتاجنا الفكري –كيفما كان وأيا كان موقعه- إلا أننا لا نجد لذلك أثرا، وسأكتفي بسرد واقعتين كنت فيهما شاهدا؛ الأولى هي أن لي صديقاً يحضّر دراسات عليا في المملكة المغربية في تخصص أدبي، يبحث عن كتاب مفصلي في بحثه، وقد أعياه البحث ولم يجد لا في المكتبات المغربية ولا اليمنية؛ حيث من الأحرى أن يتوافر. إنه دراسة للدكتور عبدالعزيز المقالح لأحد الهامات الأدبية اليمنية العربية المغمورة أحمد علي باكثير. وبعد بحث شاق لم يفض الى شيء قرر صاحبنا الاستنجاد بالدكتور المقالح عينه ليحصل منه على نسخة من الكتاب المذكور أعلاه. تصوّروا كتاباً للمقالح وعن باكثير لا تجدونه بيسر.
لكن الحادثة الأغرب لا تبعد أكثر عن أحد الشخصيات المذكورة في الحادثة الأولى (هي أني كنت حاضراً في مجلس الدكتور عبدالعزيز المقالح في منزله وأنا بصحبة مترجمة فرنسية من أصل عربي تعنى حاليا بترجمة رواية يمنية الى الفرنسية (الرهينة للكاتب دماج)، وفي خضم الحديث مع الدكتور المقالح نهض من مكانه وتغيّب برهة، ثم عاد يحمل في يده بضع أوراق: إنها مقدمة لكتاب بالعربية لباحثة فرنسية من أصل لبناني. هو في الأصل دراسة في وثائق الشخصية اليمنية التاريخية حبشوش.
أوراق فارعة الاستطالة باهتة الألوان مشدودة تستلقي عليها أحرف من بنط خطي متوتر. لم يتأخر الدكتور المقالح في توجيه سؤال إلى المترجمة إن كانت تعرف الباحثة ابنة جلدتها في الجنسية والأصل. لكن المترجمة في الحقيقة أجابت بالنفي، فهي يافعة غضة الملامح. المهم أن الدكتور (أطال الله عمره وأمده بالصحة والعافية) لم يتوان عن إخبارنا أنه لم يعد لديهم، في مركز الدراسات والبحوث، وربما في اليمن برمته، نسخة واحدة من هذا الكتاب القيم. وهو من منشورات مركز الدراسات والبحوث.
<<<
إنه إشعار آخر إلى حاجتنا الى طباعة كتب، إلى نشر حقيقي. فلقد كانت الأوراق التي بيده وهو يمسك بها بعناية وحذر، متهالكة وبلا زمام، ناهيك عن نوعيتها كأوراق الإحصاء التي كنا نصادفها تدثر "سندويتشاتنا" صباح كل يوم دراسي في مقصف المدرسة.
نعم أنا وغيري نلاحظ، ربما كل يوم، ونسمع عن عناوين جديدة تصدر في اليمن، وعن كتّاب يمنيين أو كتابات عن اليمن. لكن أين هي هذه الكتب؟ خصوصا في عالم اليوم حيث تيسرت وتضاعفت الإمكانيات التقنية في الطباعة والنشر، بل وفي ظل الحضور المقرف لصحف ومطويات كثيرة متشابهة في خوائها، بحسب تعليق أحد ملاك المكتبات المعنية ببيع الصحف والكتب. لقد صرح البائع ذاك عن اشمئزازه من معظم هذه الصحف، وتمنى لو خوِّلت له سلطة في النشر لاكتفى بإصدار 3 صحف من بين ال50 تقريباً.
<<<
الغريب في اليمن اليوم هو تنامي المطالب من كل صوب، ولكن لماذا لا نجد مطالبة واحدة ذات صلة بالكتاب؟ هل فاتنا أن الكتاب سلعة سوقية مهمة تعيش منها وعليها عائلات وأسر، بل وتبنى عليها امبراطوريات مالية؟ فمتى يمكن للكتاب في بلادنا أن يتحول إلى فضاء يجذب إليه الاهتمامات ويشكل سقفا مشتركا للجميع، فتستقيم بذلك المطالبات وتنصبّ الى ما هو موضوعي وبعيد عن إثارة المشاكل والنعرات؟ هل يمكن للكتاب في بلادنا أن يعلن حضوره السافر ليمنح الناس معرفة وتساؤلات ويؤسس لسلوك مدني حضاري؟
على هذا المقياس، وعلى صعيد عالمي، يطرح المعنييون بشأن المعرفة والثقافة –قبل أصحاب النشر– تداولا مفتوحا حول تساؤل جاد مفاده: هل الكتاب في طريقه للانقراض؟
وبين تباين الإجابات بين من يؤكد التهديد ومن يدحضه بشأن مستقبَل الكتاب الورقي في الغرب أمام غزو البدائل من وسائط حديثة ونشر للكتب على شبكة الانترنت، نجد من اليسير الجزم بأن الكتاب في اليمن في طريقه للاندثار، ولكن لأسباب أخرى مختلفة تماما. شتان ما بين تهديدي الانقراض. ففي عالم تخشى دور النشر من أن تبور تجارتها أمام أتمتة الثقافة والكتب، لم تتشكل بعد في اليمن صناعة نشر.
في يمن التحديات التنموية والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية، يمكن للكِتاب أن يسهم في الحل، وذلك من خلال صوغ علاقة جديدة بيننا نحن اليمنيين، وبين الكتاب، ونشر ثقافة تسويق فاعلة لسلعنا ومقدراتنا، نجعل من القارئ شريكا في التنمية عن وعي وبأقل التكاليف، ومن خلال حرق المراحل. فمن البديهي أن لا تنمية من دون ثقافة؛ من دون وعي.
وإلا فإن الطريقة الراهنة في تسويق ذواتنا وقدراتنا ومواردنا وخططنا لا تخرج عن تجربة بائعي الجوارب في الجولات.
في الأخير، أعود إلى جملة صديقي مواسيا له: كم يؤسفني يا صديقي أن تكون أنت من عليه أن يبدع نصاً وأن يتجشم مخاطر هذا التخليق، ثم عليه جر هم بيعه.