مشهد المطر الغزير على الأرض الجدباء

مشهد المطر الغزير على الأرض الجدباء

فتحي ابو النصر
 ليس للأشياء طعم؛ وهذا إحساسي بلحظة الوجوم المباغت شديدة الفقدان، إذ غادرنا رجل كان يمنح الأشياء مذاقاتها الأصيلة: الدكتور عبدالرحمن عبدالله إبراهيم الأغبري، الذي خسرت الحركة الوطنية برحيله واحداً من أنبل رجالاتها على الإطلاق، بل وأكثرهم قدرة على تمثل المبادئ.
ذلك انه عاش زاهداً تنويرياً، غير مفرطٍ بالقيم التي آمن بها، في هذا الزمن الانتهازي المنحط: فهو الإديب والصحافي المتسق تماماً مع ذاته كمثقف، دونما إنفصامية تُذكر. وهو المفكر الدؤوب علي الحب والعدالة والمواطنة المتساوية، كما هو السياسي النزيه، «سادن» الوحدة الذي لم يستغلها كأخرين للإثراء أو للتمصلح. وأيضاً: النقابي المُلهم بإخلاصه، وتمكنه الدائم من التطور وبلوغ الرؤية الشفافة، الثاقبة والحكيمة.
والحق أن للرجل مواقفه الخالدة في نقد شمولية النظامين السابقين جنوباً وشمالاً، في الوقت الذي كان فيه أغلب المثقفين يفضلون الصمت بدلاً من الهمس، فما بالكم بجرأة الكلام.
بمعنى آخر لم يكن وعيه يقف عند حدود الواقع وإنما ما ينبغي. فيما «بيقين ثوري نذر عمره لقضايا الناس من لقمة العيش حتى حرية الرأي والتعبير».
على أن مراجعة شاخصة ودقيقة لأدبيات الحركة الوطنية المعاصرة -خصوصاً الثقافية منها- لابد أن تعيد موضعة هذا الشجاع الشريف على رأس المتصدين لتيار القوى المضادة للثورتين.
وأما في مرحلة ما قبل الوحدة، فقد عرفته محافظات إب وتعز والحديدة، وصنعاء وعدن ولحج وحضرموت حاملاً جليلاً للمشعل الوحدوي.
كذلك كان الدكتور عبدالرحمن من الذين يشخصون أخطاء السلطة بمسؤولية، خارج نطاق النفاق المقيت، أو العنصريتين المذهبية والمناطقية.
ولقد كانت افكاره ورؤاه غير ضالة، لأنه «مع إشعار المواطن بكرامته الدائمة، لا أن تكون حقوقه كمواطن هي ما يقررها مزاج الحاكم فقط».
وأما بخلاف من صاروا يهبطون اليوم عبر باراشوت الشلة إلى أعلى المناصب الحيوية، فقد استطاع أن يكون مثالاً نادراً في احترام الذات وعفة القلب واليد واللسان. مكتفياً كعادته بإبتسامته الساخرة، سلاحه المفضل في مواجهة سوءة العابرين اللاهثين.
فحيث كانت مؤهلاته وخبراته تجعله في مصاف الادمغة التي أفرزتها هذه البلد، إلا أنه ظل متعالياً على أساليب النخاسة الفهلوية التي تمكن كثير تافهين عبرها للأسف من تصدر الواجهتين السياسية والثقافية.
ذلك بالطبع هو ما جعله في المستويات الوطنية الموازية ل بن الفضل والحميري وابن علوان والهمداني وابن زائدة وابن معدي وعمارة وبن شرف الدين والوادعي والعزب والآنسي والشماحي والبراق والمطاع والوريث ودماج والبردوني وفارع وباذيب والحمدي وعبدالولي والدميني وعبدالفتاح والربادي والابي والسقاف ومقبل وطاهر وياسين إلخ- باعتبارهم علائم للإصلاح، كما للإرتقاء من التخلف، إذ أن سياقاتهم الثقاسياسية، رغماً عن التباين الزمني فيما بينهم، ينبع من ذلك الهم المقدس: هم اليمن الموحد، والمتطور الذي يواكب التحولات لا أن يستمر رهينة لأخطائه الموروثة.
باختصار: مثل الدكتور عبدالرحمن عبدالله أنموذجاً مائزاً، لأولئك الذين حفروا آثار رؤاهم التقدمية النوعية، في خواطر أجيال عنيدة من الغرباء الحالمين.
وإذ كان نائباً في وزارة الإعلام والثقافة إلا أنهم استكثروا عليه بيان نعي: «كائنات حيص بيص».
وإذ كان اسمه يُقرن دائماً بعمر الجاوي، رفيقه الجسور في قولة (لا)، إلا أنه ساهم كثيراً بمعيته ووفقاً لأمنيات اليمن الجديد في ترسيخ معنى العنفوان النضالي، متشبثاً بالمسار الوطني المأمول حتى آخر رمقٍ. سياسياً وثقافياً.
بيد أنها همجية المرحلة لم تنصفه، ليظل طريح الفراش سنوات قبل أن يموت كمشهد المطر الغزير على الأرض الجدباء.
مات الدكتور عبدالرحمن عبدالله مساء الاحد الماضي في احضان حبيبته (عدن) بكل طلاقة الحرية في انفاسه كعاشق صعب.
مات الرجل الاستثنائي جداً، بأعين مفتوحة ناحية الصرخة الانسانية الأولى. فهل يُعقل أن نقول له وداعاً وكفى؟
إن رجلاً كالدكتور عبدالرحمن عبدالله سيظل يأتينا من عمق أحلامنا المستقبلية، مقترناً دائماً بطاقة الروح الخلاقة ومثابرتها وحيويتها. تماماً مثلما كان بأمله المستحيل مواجهاً فذاً لوفرة اليأس وكذلك لم تتفق روحه مع مهزلة المواقف المتبدلة، أو المبتذلة طبعاً.
< الفقيد الدكتور عبدالرحمن عبدالله من الرعيل المؤسس لاتحاد الادباء والكتاب ونقابة الصحافيين وكذا حزب التجمع الوحدوي.. كان من ابرز الذين عملوا للإعداد من أجل الوحدة، كما كان عضواً في لجنة صياغة مشروع الدستور، وله دوراً مشهوداً في اعادة اصدار مجلة الحكمة كما ترأس جريدة التجمع لسنوات وإنني لأعتز بعملي فيها خلال تلك الفترة.