مبادرة الرئيس.. إنفراد بالرأي وإقصاء للآخر

مبادرة الرئيس.. إنفراد بالرأي وإقصاء للآخر - عبدالباري طاهر

دعا الاخ الرئيس علي عبدالله صالح إلى اجتماع المجلسين: الشورى والنّواب/ الغرفتين. وهما غرفتان «لا تندهي مافي حدا».
فهما مفرغتان من أي مضمون حي وحقيقي، فالنواب والشورى، وهما تسميتان متناوبتان ومترادفتان منذ تأسيس المجلس التشريعي في المحمية عدن عام 1947. وأول انتخابات له عام 55 وكانت الثانية في 58. واللافت أن انتخابات هذا المجلس والدعوة إليه، كانتا السبب في تفجر الأزمة في عدن، كما مثلت بداية الانقسام والتمايز بين الحركة الوطنية الحديثة والقوى التقليدية.
أما في الشمال فكانت دعوة الأحرار، وبالاخص النعمان ومعه الزبيري والقاضي عبدالرحمن الارياني ومحمد علي عثمان وآخرون كثيرون، إلى تأسيس مجلس شورى غير مرحب به في مجتمع مسلح ويخوض قتالاً جمهورياً ملكياً في أكثر من أربعين جبهة، كالتعبير السائد حينها.
أردت بهذا المهاد الاشارة إلى أن شرعية القوة مزاج عام في الشمال والجنوب، وإن كان رفض الانتخابات في عدن لم يكن سببه رفض الحياة النيابية أو الديمقراطية، فقد كانت المدينة تعيش تعددية حزبية وسياسية نتأسى بها اليوم، وإنما كان الرفض والاحتجاجات الواسعة ضدها لحرمانها أبناء المحميات وأبناء الشمال من المشاركة، وحصرها في مواطنة «مخلقة عدن"، حسب الادارة البريطانية. وكان رفض القيادة الثورية بعد السادس والعشرين من سبتمبر في الشمال هو الوضع الثوري داخل الشمال وتأثير التجربة القومية وبالاخص في مصر يوليو 52.
معروف أن مجلس الشعب الاعلى في الجنوب في السبعينيات كان شكلياً من الألف إلى الياء، وكان صورة من صور هيمنة التنظيم السياسي منفرداً على الحياة السياسية برمتها.
أما في الشمال ففي ظل «من تحزب خان»، شعار العقيد القذافي، فإن سيطرة القوى التقليدية وتحديداً القبائلية، ظلت هي المهيمنة مع مشاركة هامشية وجد محدودة للاسلام السياسي وقوميين ومستقلين. وكانت شوراه حتى اليوم أقرب للشورى الاسلامية غير الملزمة في رأي غالبية فقهاء السُّنة منها إلى شيء آخر.
مجلسا الشورى والنواب مؤسستان كاريكاتوريتان كبقية مؤسسات الحكم. فهما لاعلاقة لهما بالرقابة أو التشريع. فالنواب (البرلمان) لا يستطيع المساءلة الحقيقية للوزراء، كما أنه أبعد ما يكون عن سحب الثقة منها.
صحيح أن داخل هاتين «المؤسستين» التشريعيتين رجال لهم خبرة ومقدرة طيبة ولكن «ما تفعل المرأة المدبرة في البيت العطل». وجعله عاطلاً باطلاً ارادة حاكمة لاراد لها.
فماذا تعني دعوة «الغرفتين الفارغتين»؟!. إن التوقعات الراعبة هي إعلان حالة الطوارئ، وهو توقع مرجوح في بلد يعيش الطوارئ منذ آماد متطاولة.
وخطورة إعلان الطوارئ لوحدثت -لا سمح الله- ستكون موجهة بالأساس ضد احتجاجات الجنوب، وستكون امتداداً لحرب 94، التي لم تتوقف وإن اتخذت صوراً واشكالاً عديدة ومتنوعة.
اما التوقع الثاني والراجح فهو طرح المبادرة الرئاسية في تعديل الدستور، والحكم المحلي. والفاجع أن الضحية في اليمن دائماً الدستور. فالحكم لـ«بندق العدال» أو «ثور الهجر» فكان الدستور هو الضحية للتكفير عن الخطيئة أو استجلاب رضى الآلهة.
اللجوء إلى المجلسين لتبني المبادرة، وهي مضمونة سلفاً، ولن يحدث حولها أي معارضة في ظل هيمنة «حزب الحاكم»!.
ما يؤرق أن المبادرة الرئاسية الآتية من أعلى تستهين بالاحتجاجات المتصاعدة في عموم اليمن، وبالأخص في الجنوب. الذي لم يبرأ من جراحات حرب 94. وهي قطعاً ليست مع المعارضة السياسية «الدائخة»، وإنما مع المجتمع اليمني الذي فقد الثقة بالسلطة، وأصبح لا يرى فيها إلا أداة قمع ونهب.
المبادرة تؤكد أن السلطة غائبة حد القطيعة عن معاناة الناس والمشاكل الحقيقية لهم. تمثل المبادرة «الانفراد» بالحكم والانفراد بصنع المشاكل وإرادة التفرد بحلها أيضاً. فلم يعد الحكم يكتفي بصنع الكوارث، وإنما يصر أيضاً على منع الناس وحرمانهم من حق المشاركة في المعالجة أو الإطفاء.
نحن إزاء سلطة لا تتقن إلا الغلبة، ولا تنزل إلاَّ على حكمها، والضحية المستمرة والمتكررة بالدستور هي التعبير المكثف عن الاستهانة بالعقد الاجتماعي بينها وبين مواطنيها. فالتشريع والدستور والسياسة برمتها لا تغني عن القوة شيئاً، وحدة 22مايو 90، ليست وحدة لأنها تمت بعقد اجتماعي «الدستور»، وبتوافق سياسي كمصالحة وطنية بين الشمال، والجنوب. وتحديداً بين المؤتمر الشعبي العام والاشتراكي. ومن هنا يؤرخ الحكم للوحدة الممهورة بالدم أو المعمدة به في 7/7/94.
شرعية القوة لا تحمى إلا بالقوة. وما الدستور إلا ضحية لعبة تكتيكية لا تعني الكثير. وقضية الحكم تسير في نفس اتجاه رفض شركات الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، ورفض التوافق والتحاور والنزول عند إرادة مجتمع محتج وغاضب.
لقد استمرأ الحكم التفرد بالسلطة: بدأ بإقصاء الحليف الاشتراكي بحرب إجرامية. ثم استبعد حلفاءه في الحرب: التيارات الجهادية ثم الاصلاح. ثم استغنى عن خدمات حلفائه من غير المنطقة ليصل الأمر إلى التصدع داخل الأسرة ذاتها.
ضلال الحكم الذي لاشفاء منه أو هداية له، هو الاعتقاد بأنه حزب الأغلبية، في حين يعرف الحاكم أكثر من غيره طرائف صناعة هذه الاغلبية.
مبادرة الرئيس انفراد بالرأي، وإقصاء للآخر، ورفض مبطن للحوار، وقفز على قضية الجنوب، وسير في طريق «لنا الصدر دون العالمين أو القبر». موافقة المجلسين عليها تحصيل حاصل!. وحتى لو طرح خيار الطوارئ فلن يعترض أحد. ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
وأخطر ما في الأمر أنَّ الحكم لم يعد يعي أو يدرك أنه في وادٍ والاغلبية «المزعومة» في وادٍ آخر.
تذكرني التعديلات المكرورة للدستور بقصة «قس» وعد عبده العجوز بالعتق إذا أكل رعيته الديك الرومي المقدم اليهم في أعياد السيد المسيح. ولمعرفة الرعية ببخل القس لم تمتد أيديهم إلى الديك. أمر القس عبده بإعادة الديك إلى الثلاجة. في العام الثاني أمره باستخراجه وتسخينه وتقديمه إليهم. فلم تمتد أيديهم إليه، فأمره بإعادته. وفي العام الثالث عندما أمره بتقديمه انفجر العبد باكيا، قال له القس قد وعدتك بالعتق إذا أكل الضيوف الديك ولكنهم لم يأكلوه، فلماذا تبكي؟! رد العبد: «لا أطلب عتقي، ولكني ارجوك إعتق الديك!!». فمن يعتق ديكنا الذبيح: الدستور؟!
كما ذكرني تهديد الاستاذ محمد عبدالله اليدومي بالحرب دفاعاً عن الوحدة، بتصريح صدام حسين بالحرب ضد الاتحاد السوفيتي إذا غزا السعودية، ولكنه في العام نفسه قام بغزو الكويت، وتهديد أمن السعودية. ولعل مقارنة بين تصريح اليدومي وتصريح مسؤول الاصلاح في حضرموت (محسن باصرة) حول الوحدة، يكشف عمق الخلل في رؤية أحزابنا للأوضاع لا تقبل الشطط أو الخفة.