الاتكاء على القبيلة التي أهدت الحكم للعسكر

الاتكاء على القبيلة التي أهدت الحكم للعسكر - أحمد الزرقة

بكثير من الألم ما زال الناس يتذكرون كيف سرق المشائخ القبليون الثورة اليمنية، وكيف انقلبوا ضد الحكم المدني برئاسة القاضي عبد الرحمن الارياني عام 1974م، وسلموا الحكم للعسكر، فبعد أن وقفوا مع القاضي أول أيام حكمه وقالوا إنه المخلص لليمن وأنه المخرج مما تعانيه البلاد من أزمات وخلافات نشأت بين مراكز القوى القبلية والعسكرية حينها، والتي كانت تتنازعها قبيلتا بكيل بزعامة الشيخ سنان أبو لحوم وحاشد بزعامة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وخلال مذكرات الشيخين يحاول كل منهما التنصل من مسؤوليته وإلقاء اللوم على الآخر في نقل السلطة من المدنيين إلى العسكريين، وكان الطرفان -كما يقول الشيخ الأحمر- يعتقدان أن الرئيس الجديد إبراهيم الحمدي الذي جاء من خارج التكوين الطبقي والجغرافي لسطوة القبيلتين، قليل الخبرة ولا يمتلك عصبية قبلية، مما سيجعله لقمة سائغة يسهل قضمها لتحقيق أكبر قدر من المصالح، لكن المقدم الحمدي أثبت العكس وبدأ في التخلص من قبضة المشائخ تدريجيا، وكانت الخطوة الأولى تتمثل بإقصاء القيادات العسكرية من آل أبو لحوم عبر تعيين قيادات عسكرية قبلية لكنها أقل تشددا والتزاما للمؤسسة القبلية، ولاقت تلك الخطوة ارتياحا من قبل الشيخ الأحمر الذي اعتبرها خطوة في تفكيك سطوة غريمه التقليدي الشيخ سنان أبو لحوم الذي قال الشيخ الأحمر إنه لعب دورا كبيرا في إقصاء الرئيس الارياني، وكانت الخطوة الثانية تتمثل في إقصاء عدد من الشخصيات القريبة من الشيخ الأحمر فتم عزل الشيخ مجاهد أبو شوارب من منصبه، بالإضافة لتعليق العمل المجلس الوطني وتقليص نفوذ المشائخ على المؤسسة العسكرية والمدنية، وظهر الحمدي كرئيس عصي على الانقياد لرغبات المشائخ، مما أدى لنفور الزعامات القبلية من حوله، ولجأ الأحمر للتمترس في مدينة خمر معقل قبيلته. وعلى الرغم من المحاولات السعودية التي كان يقودها سفير المملكة في صنعاء لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، إلا أن تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح.
وبعد اغتيال الحمدي وخلفه الرئيس الغشمي كانت الفرصة سانحة لإعادة الحكم للمدنيين وانتزاعه من أيدي العسكر، إلا أن المواقف المتخاذلة والتردد للمشائخ، وترقب القادم الجديد أجل دخول القبائل إلى صنعاء، واستطاع الرئيس صالح احتواء أولئك المشائخ، وتعامل معهم بدهاء بحيث استطاع تحجيمهم وتسخيرهم للعمل ضمن المنظومة التي جعلته يستمر طويلا في منصبه.
وخلال سنوات حكم الرئيس صالح ظل المشائخ إلى حد كبير جزءاً من النظام، وكانوا بعيدين كثيرا عن الخطاب التثويري والتحريضي ضده، ولم يكن الخطاب السياسي للقبيلة في يوم متشنجاً ويكرس الولاء للقبيلة أياً كانت على حساب الانتماء للوطن. وكان الشيخ عبد الله بن حسين الاحمر وقبيلته حاشد بالمفهوم الكبير شريكا رئيسا في معظم المحطات السياسية في التاريخ اليمني المعاصر، وحتى عندما كانت تصل الأمور بينها وبين مؤسسة الحكم لطريق مسدود، لم تكن تتمترس خلف حاشد كجزء مفصول عن المفهوم العام للقبائل اليمنية، ولم تكن مؤتمرات خمر الأول أو الثاني تقتصر على حاشد، بل كان الحديث خلالها يتم عن القبيلة اليمنية بشكل عام، وكان النظام القبلي خلال تلك المحطات مفهوم الولاء القبلي الضيق الى الولاء الوطني كمفهوم أوسع يهدف لإبقاء المنظومة السياسية للدولة كإطار جامع.
ولعبت القبيلة بمفهومها السياسي أدواراً في عملية التوازن السياسي بين القوى المختلفة التي كانت تتنافس على سدة الحكم، وإن كانت جهود استمالتها وترجيحها لأحد أطراف اللعبة السياسية وارداً في كثير من الحالات.
وإذا كانت القبيلة قد استفادت كثيرا، وإن عبر شخصياتها الاعتبارية، في تحقيق الكثير من النفوذ السياسي والاقتصادي، إلا أن تلك الفائدة لم تنعكس على مناطقها التي حرص الكثير من مشائخها على استمرار أفرادها بعيدين عن العصر باعتبارهم مقاتلين أو غرامة بالمفهوم القبلي، ووصل الأمر إلى احتساب قوة القبيلة بما تمتلكه من غرامة أو مقاتلين، وبالتالي لم تنعكس جهود التنمية على تلك المناطق، بسبب حرص المشائخ على بقاء الوضع كما هو عليه، وأدى ذلك إلى تكريس السلطة والنفوذ والثروة في نفس الأسر أو النخب الحاكمة في تلك المجتمعات.
الجيل الأول من المؤسسة القبلية الحاكمة استطاع أن يصل لاتفاقات تحفظ لكل طرف قوته، عبر الوصول لتسويات سياسية، وإخلاء كل طرف لمربعات معينة للطرف الآخر، لكن مع مرور الوقت وظهور قيادات الجيل الثاني من تلك الأسر، وعدم قناعتها بأهمية التعايش في ما بينها، ولعدم إدراكها للتسويات الطبيعية لرقعة الحكم التي رضي بها الجيل الأول، برزت منذ وقت مبكر انقسامات حادة في ما بينها، بل إنها تصورت أن بإمكانها تغيير الموازين التي حكمت جيل الآباء، وإمالة قوى المجتمع المدني نحوها، وأصبح الصراع يأخذ منحى يقوم على الإقصاء وعدم الاعتراف بالشرعية للطرف الآخر، تمثل هذا جليا في الصراعات الواضحة لتلك القوى، والتي هي الأقدر على التحرك سياسيا واقتصاديا لامتلاكها المقومات الاقتصادية الكبيرةٍ، والتي بدأت من خلالها في استقطاب القوى القبلية وخلق معارضة قبلية مفرغة سياسيا، بل وتعتمد على نفس الآلية التي أوجدتها مؤسسة الحكم، عبر فتح الصناديق المالية وضخ أموال كبيرة لاستقطاب الموالين، والعزف على وتر الأحقية بالحكم، وفساد منظومة الحكم، ولم يكن البعد القبلي غائبا عن تلك المعركة، فتصريح حسين الأحمر مثلا أن الرئيس صالح لا ينتمي لحاشد فيه الكثير من التعالي على الواقع السياسي، فهل الانتماء لحاشد شرط أساسي ومهم من أجل شرعية الحكم؟
كما أن الحديث عن دور حاشد في إسقاط نظام الأئمة بعد اختلاف الإمام يحيى مع أسرة الأحمر، فيه الكثير من المبالغة، ومحاولة لإلغاء دور القوى السياسية الأخرى، التي فعلا ساهمت في الثورة اليمنية ودافعت عنها.
الشيخ عبد الله الأحمر كان ينظر إليه كصمام أمان في الكثير من المحطات التاريخية، ولم يصل لمكانته التي هو فيها إلا لرجاحة عقله وتغليبه المصالح العامة في كثير من الأحيان على مصالحه الخاصة، وخلال فترة بقائه في حاشد كان ضابط إيقاع، وكان متحدثا باسمها، واليوم الشيخ صادق هو من تم تنصيبه شيخا لحاشد، لكن ما يدور الآن في حاشد من حشد للقبائل والحديث باسمها من قبل آخرين ربما فيه التفاف على تنصيبه شيخا لها، وعدم رضا مبطن بالدور المرسوم له من قبل الشيخ عبد الله (شفاه الله).
قد تلقى تصريحات الشيخ حميد وحسين الأحمر صدى واسعا وارتياحا من قبل العديد من القوى السياسية في الساحة اليمنية، التي تريد أن يكون أبناء الشيخ كسهم يطلق نحو مؤسسة الحكم، وهو عكس الدور الذي كان الشيخ عبد الله يقوم به؛ فهو كان مظلة يلتقي تحتها معظم التيارات والشخصيات، وفرق كبير بين المظلة والسهم.
ما يقوم به أبناء الشيخ يتجاوز مفهوم النصح والمعارضة ليصل إلى مربعات التحريض والتشكيك بالمشروعية للدولة اليمنية، وغير مبرر أن يكون منع دخول مسلحين بمعية الشيخ حسين إلى صنعاء بشكل يخالف قانون حمل السلاح، مدعاة للانتقاص من الآخرين، أو فرصة سانحة للتأليب ضد الحياة المدنية التي يجب أن يلتزم الجميع بها.
والحديث عن النضال له أدواته وأساليبه وقنواته، التي بالتأكيد ليس حشد المقاتلين والمحاربين من أدواتها. لحسين الأحمر مشكلة داخل حزبه، فليناقشها داخل تلك الأطر، أو عليه أن يتحلى بالشجاعة ويعلن استقالته من المؤتمر الشعبي العام وينضم لأي حزب معارض، بدلاً من الاحتماء بالقبيلة، وسنقف جميعا إلى صفه في نضاله السلمي، إلى جانب حقوقه التي نص عليها الدستور كمواطن، لأن الدستور لم يقل إن هناك تقسيمات طبقية تحتوي على رعايا ومشائخ.
alzorqa