كونها قابلة للتوطين وضرورية في مواجهة الاختبار الصعب.. الفيدرالية هي الحل (1-2)

كونها قابلة للتوطين وضرورية في مواجهة الاختبار الصعب.. الفيدرالية هي الحل (1-2) - وضاح المقطري

كون الوحدة منجزاً وطنياً، وامتيازاً حضارياً؛ فإن ذلك ليس سبباً كافياً لشرعنة ما يحدث باسمها، ولا يؤيد الإقصاء والاستعلاء والطرد من رحمتها بها. ولأنها تتعرض اليوم لاختبار صعب؛ ينبغي دراسة جدواها، وقابليتها للاستمرار في ظل وضع ينفجر في وجوه الجميع، تاركاً ألف احتمال لألف نكسة قد تصيب الجميع بلا شفقة.
فالوحدة التي بزغت في الفكر الوطني منذ فترة مبكرة، لم تكن وحدة الجغرافيا فحسب، ولم تكن هي الغاية فقط، وإنما اتخذت شكلاً لتحقيق الأمن والرخاء لعموم الوطن، وبداية الطريق نحو وحدة عربية (هي المستحيل نفسه)، وتمكنت من الإمساك بتلابيب وعي وتفكير اليمنيين بلا استثناء، برغم الكثير من التحفظات على شروطها وإمكاناتها ومستقبلها.
لاحقاً، وبعد تحققها، وما نتج عنها من حرب وتنكيل، وتزوير للتاريخ، وقلب للحقائق، وإلغاء وتهميش لأحد طرفيها، وكل من وما هو محسوب عليها؛ صارت الوحدة إشكالية مربكة، وحقيقةغامضة، سقطت عنها كل معاني الأمن والرخاء المفترضة، وصارت لدى الطرف المهزوم شوكة في الحلق، إن هتف باسمها استنكره الألم والجوع، وإذا شكا ألمه جلدته سياط الثوابت، وهي أهم تلك الثوابت.
المسألة اليمنية عموماً شائكة ومعقدة ومختلطة ومربكة. فلو افترضنا عدم وجود الجنوب فيها، أو فصلنا بين الشمال والجنوب، لوجدنا الشمال وحده يعج بالمتناقضات والاحتقانات التي لها أكثر من سبب، أهمها -بالطبع- بنية النظام السياسي التسلطي القائم، وما يترتب على ممارساته من ظلم اجتماعي وتمايزات مناطقية واستعلاءات ورغبات في السيطرة والنفوذ والامتلاك في مواجهة رؤى حداثية، ورغبات بسيطة في العيش الكريم، والوجود الحقيقي على خارطة العالم.
ربما أسرفت هنا في استخدام مفردات لمفاهيم مطاطة (الأمن، والرخاء، والسعادة،...)؛ بيد أن الموضوع الذي أحاول أن أساهم به في نقاش المسألة اليمنية عموماً، يأتي من كون المسألة مرتبطة بمفاهيم من هذا القبيل، وبالتالي فإن هذه المفاهيم ليست هي المحور هنا، بقدر ما هي معنى ما يبحث عنه الجميع بأقل الخسائر الممكنة.
ولذا يجدر بنا أن نعيد دراسة جدوى الوحدة كامتياز وطني وحضاري وثقافي، لا لوضعها على محك الاستغناء عنها أو رفضها، بل على سبيل الخروج بها إلى الممكن بتجاوز الآثار الناجمة عن كونها صارت واقعاً لا ينبغي التراجع عنه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها مثل ما هي حقيقة حضارية وثابت وطني (لدى البعض)، فإنها بالمقابل ليست كياناً مقدساً تقدم الكرامة البشرية قرباناً له، وتفنى لأجله الأرواح مجاناً في مواجهة عدوٍّ يزايد بها وهو أبعد الجميع عن معناها.
ربما يتميز المجتمع اليمني بوجود الكثير من الانسجام والتناغم في مكوناته؛ بيد أن هذا التناغم ليس مطلقاً، ولا مبرراً لعدم القول بوجود اختلالات كبرى في بنيته، وحيلولتها دون تكوين وحدة وطنية تامة؛ فاليمني يعيش الكثير من التناقضات في الحراك اليومي، وتتداخل لديه الرؤى والتوجهات، ويشعر بالكثير من الظلم، أحياناً وهو في موقع الظالم، أو على الأقل في الطرف الظالم، وليس الجنوبي وحده من يشتكي من الظلم الفادح والجور والانتهاك، فالتهامي يجد في القادم من صنعاء ناهباً لأرضه، والآتي من تعز محتلاً لمكانه في العلم أو الوظيفة، فيما يعتقد الساكن في أرياف صنعاء أن أصحاب "مَنْزَلـ" امتلكوا العلم والثقافة، وكانوا سبباً في حرمانه من الدخول في معترك الحضارة، أو أنهم يشكلون خطراً على هويته وتقاليده، فيما يعاني الصعداويون (مواطنو صعدة) من الإبادة بسبب معتقدهم -كما يتم الزعم- عبر حرب طائفية... وغير ذلك من التناقضات التي في حقيقتها ليست أكثر من خللٍ في البناء الاجتماعي وتوزيع الثروات، وإصرار أطراف المعادلة السياسية على بقاء الوضع على ما هو عليه ثقافياً واجتماعيا، في حين أن اليمني مهيأٌ لأن يكون نقيضاً للطائفية والمناطقية لولا أن الأمر ليس بيده.
والسؤال الذي أُنهي به هذه المقدمة لأبدأ محاولة الإسهام في نقاش حلول المسألة اليمنية في ضوء الاحتقانات الأخيرة، هو:
ماذا عن فيدرالية يمنية ممكنة وقابلة للتوطين؟
من شأن اتحاد فيدرالي أن يؤدي إلى توزيع السلطات من المركز وحتى الأقاليم، أن يمكن تحقيق الأمن والاستقرار المطلوبين بإبطال كافة مشاريع العنف، ومحو آثار الصراعات والحروب السابقة، وإزالة الاستعلاء والإلغاء والمصادرة تجاه مناطق بعينها، ولصالح أخرى، وذلك بإعطاء الأقاليم ما ينبغي لها لتكوين خصوصيتها ونظمها وقوانينها الخاصة والمستقلة بشكل غير كامل عن القوانين المركزية، والاعتماد على ما يمنحها دستور فيدرالي من إمكانات. وفي ما عدا ذلك سيكون ثمة أولوية للقوانين المركزية، وبالذات في ما يخص توزيع الثروات والبنية التحتية، والمنشآت النفعية العامة: كهرباء، مياه، موانئ، مطارات...
إن عدالة توزيع قائمة على أساس فيدراليٍ ستحد بالتأكيد من قدرة الحكام في المركز على الاستئثار بالقرار أو إلغاء الآخرين وإقصاء الأطراف، فتنفتح فرص الإمكانات اللازمة (وربما الفائضة) للتطوير والتأهيل المحلي للقوى البشرية، وإدماجها في عملية التنمية مباشرة، والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية، وإتاحة الفرصة للمزيد من الحريات والحقوق.
ربما تحاول القوى السياسية اليمنية الهروب مما تسميه "الفتنة" التي ستؤدي إليها الدعوة إلى الفيدرالية، إلى الدعوة إلى حكم محلي واسع الصلاحيات. والفتنة المقصودة هنا هي ما ستعتبره السلطة دعوة لتقسيم البلد، وستحرض ضده ودعاته باستغلال ندرة الوعي بمثل هذه المصطلحات. لكن الدعوة إلى حكم محلي واسع الصلاحيات ليس سوى محاولة لتجميل الواقع بالممكن، والبحث عما هو أقرب وأسهل، وهو -في رأيي- ليس سوى كسل عن السعي، وجبن عن المواجهة؛ فالحكم المحلي الواسع الصلاحيات لن يلغي المركزية إلا قليلاً، وسيحتفظ للمركز بصلاحيات واسعة تبقى الشكوى في ظلها مستمرة من الاستئثار بالقرارات، وسينتج عن ذلك -بعد حين- مشاعر الدونية والتهميش لدى الأطراف، وستبقى غالبية الخدمات وأفضلها مقتصرة على المركز، وما يليه حسب الأهمية المفترضة، وسيكون لكل طرف رغبته في تحقيق تكوينه الخاص مثل المركز أو أكثر.

> يتبع
w-maktariMail