تعز والهوية المتخيَّلة

تعز والهوية المتخيَّلة - محمد ناجي احمد

إن الحديث عن تعز ذات الكثافة السكانية والتعليمية وفق سياق تاريخي -أتاح لها هذا الحضور- شيء والاتكاء على هذا التاريخ باعتباره ثابتاً من ثوابت هذه المحافظة وإرثاً ينبغي أن يكون حاضراً في معادلة المحاصصة المناطقية على السلطة، شيء آخر يأتي في سياق تجذير لهوية وهمية تبنى على أساس الاستعلاء والتميز المعرفي التعزي، في عمومية تسحب نفسها على مجمل مناطق تعز حتى أكثرها أمية وغياباً عن الحداثة، ليصبح حديث الاستعلاء متضمناً وناتجاً للغة التباكي والشعور بالضعف تجاه جغرافية «مطلع» كمقابل لـ«منزل» وتأييد التاريخي من خلال جعله طوطمنا الذي نرثه ونطالب بحقوق الشراكة المناطقية هو بالتأكيد منافي لمنطق الشراكة على أساس المواطنة المتساوية والحكم المحلي المطلق الصلاحيات الذي ينبغي أن يكون بالامكان انتقاء الرموز وإضفاء الطابع «التعزي» عليها كنماذج لأبوة الخطاب القومي والإسلامي واليساري، ويمكن لهذا المنطق أن ينجح بانتقائية في جغرافية أخرى فيصبح سالمين وابراهيم الحمدي وعبدالمجيد الزنداني»، مقابلاً شعبياً من حيث التأثير لنخبوية عيسى وعبدالفتاح وعبده محمد المخلافي.
إن هذا المنطق في المحاججة السجالية الأمنية في وهمها للهوية التعزية المثقفة والتي اصبحت تتردد لدى البعض، باعتبار تعز «ضمير الحداثة والثقافة» جذره فيما أظن يعود إلى «خرافة عبقرية المكان»، والاّ ما معنى الاتكاء على الماضي الذي نشأ بفعل عوامل موضوعية بحتة، وأصبح اليوم متوفراً للجميع، بل وأصبح احتكار التعليم النموذجي خاصاً بأبناء مشايخ القبائل وقيادات الجيش، وكبار التجار مقابل تقديم تعليم مزيف لبقية المواطنين. هذا الاحتكار الذي كثف الاستئثار بالحكم، وعمق أوهام التفوق لنجتر نحن وهماً حداثياً.
إن شيوع الخطاب المناطقي وخصوبته كمقابل للمناطقية التي تعمل السلطة على تجديدها والتأكيد عليها تارة عند حديثهم عن «حاشد» الثورة والجمهورية والوحدة، وتارة عند حديثهم عن «تحديث القبيلة» وهو ما يشكل خطراً على مفهوم الدولة التي يجب أن تؤسس على الموطنة المتساوية وتنميتها، وليس على «تحديث القبيلة»، بل عبر دمجها بمشروع المجتمع المدني. ففي المناطق التي عرفت التعليم والاحتكاك بالخارج مبكراً- كبعض مديريات الحجرية- نجد أن هذا التعليم عمل على اضعاف وتفتيت السلطة المعنوية للمشيخ، فليس صحيحاً أن السلطة المركزية عملت على محاربة المشيخ في تعز، وإنما كان الانتصار لهذا الشيخ وصناعة آخر والقضاء على البعض، يأتي في إطار الصراع بين أطراف العصبة الحاكمة، أمّا مواجهة «المشيخ» كثقافة وهيمنة فمشايخ الزراعة لدينا تم تقليص نفوذهم وتحويله الي رمزية ضعيفة بفعل الوعي الحداثي والتعليمي، في حين أن النهج الرسمي عمل على نشر ثقافة المشيخ ليصل الأمر الى توسيع هذه الثقافة ومد نفوذها إلى المدن ليصبح بجوار كل عاقل حارة شيخ لها.
قد نتوهم أن المشيخ في تعز لديهم امتداد جماهيري باعتبارهم «أجيال» زراعة، وهو وهم يتنافى مع حقائق التاريخ؛ فمشايخ تعز معظمهم كانوا برتب عسكرية يتبعون الوالي التركي، ك «قائمقام»، كذلك كان «عبدالوهاب نعمان» و«علي عثمان» (والد محمد علي عثمان) و«ناصر ماوية» وغيرهم، واكتسبوا إقطاعياتهم الزراعية في ظل ولائهم للأتراك تماماً، كما اكتسب الكثير من مشايخ القبيلة في الشمال وشمال الشمال اقطاعيات زراعية مقابل خدماتهم العسكرية في جيوش الأئمة!!.
 إن السير في مخدر الهويات الوهمية لن يبقى صيغة جامعة للناس. وما تسرب هذا الخطاب الى التيارات الحديثة، التي نشأت على أساس عروبي أو إسلامي أو أممي- إلاّ مؤشر على خطورة هذا المنطق التي عملت السطة من خلال سلوكها وخطبها على تكريسه. فهي لا تقوى على مواجهة الافكار والاهتمامات العامة والكلية، ولكنها تستطيع أن تجعل من الآخر مقابلاً هشاً يحمل لغة السلطة وثقافتها ولا يملك أدواتها وهيمنتها إنه من خلال الرغبة يعيش هاجس تدويل هذه الثقافة وتبادل أدوارها بمنطق رخو تستطيع الانظمة الرخوة مواجهته.
إن منطق الهويات المقفلة بالإمكان انعاشه في الحواري والقرى. والمسألة لا تحتاج لأكثر من استثمار ثقافة العصبية والخصوصية السالبة لإلغاء ما يجمع الناس في إطار أمة يجب أن تبنى على أساس المواطنة المتساوية، لكن مشكلة المقالات ذات الهوية التعزية المغلقة لا تشتغل إلا بما يهوى الحاكم، فهي لا تطالب بحكم محلي مطلق ولكنها تطالب بتغيير هذا المحافظ متجهة الى «ولي الأمر». بلغة «الرعوي» الذي يستجدي سيده. وفي نفس السياق يمكن قراءة اعتصام تعز في «15/8/2007» وشعاراته لنجده لم يخرج عن هذه «الرعوية» التي تختتم اعتصامها بما يشبه تقبيل يد «نائب الحاكم»، وذلك بأخذ صورة تذكارية «للفرجة» على سذاجة الابتسامة؛ وهو ما يؤكد أننا نواجه الحاكم بهوية وهمية يسهل دحرها لصالح الأوهام المدججة والمعززة بقوة الجيش والمال والقبيلة.
إن خطاب القبيلة الحاكمة لا يكون مع الوحدة كمضمون، وإنما معها باعتبارها عودة الفرع للأصل والأخت للأم، مع تفريغها من مضمون الشراكة المواطنية، وهي ليست مع الديمقراطية المعبرة عن الأصوات الحرة، وإنما معها باعتبارها أداة قهر للأصوات من خلال التجويع والتخويف والتجهيل، يمكن للمرء العودة الى رسائل الشيخ «عبدالله بن حسين الاحمر» في وثائق الشيخ «سنان أبو لحوم» في بداية السبعينيات وهي تجسد مفهوم ورؤية «القبيلة الحاكمة» للديمقراطية، فهم ليسوا مع الانتخابات حتى يتم السيطرة بشكل كامل على اليمن. ويمكن قراءة الخطاب المناطقي الاستعلائي في نظرة الشيخ «عبدالله» لابناء عدن باعتبارهم هنوداً، وفي رسالة «مجاهد ابو شوارب» لـ«سنان» في عام 1977وهم يأتمرون بـ«ابراهيم الحمدي» فقد كان من أسباب خلافهم معه أنه سيمكن «المولدين» للزحف على الحكم وهو يقصد بالمولدين ابناء تعز وعدن، فهؤلاء لم تعد دماؤهم القحطانية نقية، وإنما امتزجت بدماء الهنود والأحباش!!.
هل نواصل السير بعفوية في طريق الهويات التعزية وهو بالتأكيد انحدار يصب لصالح «الهوية الحاشدية» التي تستأثر بأسباب الغلبة من مال وسلاح وقبائل وجيش، أم نؤكد على المطالبة بصيغة جامعة وعقد سياسي واجتماعي يعترف ويعزز حرية الفرد ويؤكد على كيان أمة واحدة أساسها المواطنة المتساوية في الحقوق. وطن يحترم التنوع لأنه مصدر ثراء، وليس انتقاصاً يحترم حرية الفكر والاعتقاد، متجاوزاً لأوهام التفوق والنقاء والأصلانية وخرافة «عبقرية المكان»؛ فلا الجغرافية ثابتة، ولا السكان في نقاء عرقي، لأن الانسياق وراء الخرافات سيعمق من حالة الضعف والاستضعاف لدينا.
اعتقد أن على التيارات السياسية ذات الهويات الكلية الكبرى، سواء القوميين أو الاسلاميين أو اليساريين- عليهم أن يخرجوا من حالة الشلل الذي يعانونه، ومن الاستسلام الفكري، إلى معالجة أزماتهم واستنهاض أفكارهم بوعي يستدرك حرية الفرد والاختلاف والتنوع وفق عقد اجتماعي يتيح شراكة للجميع؛ مما يجعلنا متجاوزين لهويات الطفولة والتي ستظل قائمة كبديل طالما وأن ما يجمع الناس هو القهر والتغييب. ففي البدء تكون السرديات الصغرى عملاً من اختلاق «الشيطان»، ثم لا تلبث أن تتجذر متشبثة بحقائق الجغرافيا والتاريخ، التي يمكن أن تكون اساساً للهويات التفتيتية، ويمكن أن تكون أساس الهوية الجامعة. ولأن واقع التفتيت هو مرادف لاستمرار الدولة التسلطية فإنه لا مخرج لنا إلاَّ أن نتفق على هوية جامعة متحررة من التسلط ومن هاوية التفتيت. وطن نتمتع فيه بحق الرئاسة لكل موطن, وحق التفكير, دون أن نقمع بثوابت المنتصر وإملاءاته, وبنزف المهزوم وانفعالاته.