المواطنة واستثارة الهويات

المواطنة واستثارة الهويات - محمد المنصور

من أخطر نتائج حروب السلطة في صعدة، الترويج للخطاب الطائفي الذي عبّر عنه إعلام الحزب الحاكم وتوابعه والذي اعتبر الحرب على الحوثيين حرباً على الإثنى عشرية، والروافض والشيعة.. كتبرير للحرب وغطاء على الممارسات القمعية التي طالت في الحقيقة الكثير من المنتمين للتيار الزيدي وكتبه ومراكزه.
بعض المطبوعات الصحفية المحسوبة على السلطة والكتب والفتاوى ذهبت للربط بين الحرب على الحوثيين وبين الحالة المذهبية المتوترة بين السنة والشيعة في العراق.. يستوجبها – برأيهم - التصدي للنفوذ الفارسي الصفوي الذي يستهدف السعودية واليمن عبر الحوثيين والإثنى عشرية المزعومة في اليمن.
وإذ ثبت للعيان قابلية المشكلة في صعدة للإحتواء بمجرد إشارة من السلطة تبدي استعداداً لوقف الحرب، ثبت كذلك سوء توظيف البعد الطائفي للصراع ولكسب تعاطف البعض في الداخل والخارج لتبرير الحرب وأسبابها، ما يكشف بطلان ماذهبت إليه وسائل إعلام الحزب الحاكم ومن لفّ لفها من الإخوة المحسوبين على السلفية.. الذين أسهموا في التحريض والتعبئة للحرب من منطلق مذهبي تكفيري.
وما إن سكتت المدافع في صعدة، حتى انبرى البعض للتشكيك في الإتفاق المبرم برعاية قطرية بين السلطة والحوثيين، ذهب ذلك البعض في التحليل والإستقراء الأيديولوجي إلى التشكيك في نوايا الطرفين، مفضلاً الحرب والقتل والدمار على أية بدائل سلمية أخرى. من المؤسف أن الدوافع المذهبية الضيقة وأحياناً المناطقية والعنصرية تقدم لنا تفسيراً مقبولاً إزاء المشككين بجدوى الإتفاق، المحرضين على الحرب واستمرار دوامة العنف إلى الأبد.
في الجهة الموازية ثمة من ذهب إلى خلق أجواء صراع بين ما سماه " متطرفي السلفية ومتطرفي الزيدية " وبين الصوفية والسلفية والشمال والجنوب الذي استجد لتوصيف حالة الإحتجاج التي يبذلها الإخوة المتقاعدون المدنيون والعسكريون للمطالبة بحقوقهم المشروعة، وذهب البعض في هذه الجهة الموازية إلى اختلاق سيناريوهات صراع مستقبلي بين الزيدية والشافعية.. والتحذير، كذلك - في موجة تشويش أخرى على جهود لجنة الوساطة بصعدة- من صراع " الإخوان والزيدية"، واستدعاء شواهد وأمثلة من الماضي لتأكيد ما ذهب وما دعى إليه هذا البعض في محاولات لا تخطؤها عين على محاولات التأزيم، واختلاق الصراعات الوهمية، والسيناريوهات الشيطانية لليمن.
وإذا ما قدر لجهود لجنة الوساطة التي ترعاها دولة قطر الشقيقة أن تمضي بلا معوقات لطيّ ملف حروب صعدة الدامية ومآسيها الوطنية بامتياز.. فإن الدروس المستخلصة منها أو التي ينبغي أن تُستخلص بأمانة وبتجرد تؤكد على فشل منطق القوة في حل المشاكل الداخلية أياً كانت وخطأ اختلاق الصراعات المذهبية وتأجيجها، واستحالة القضاء على الأفكار بالحروب وبوسائل القوة والقهر وأنّ الخيار الأفضل والوحيد لليمن هو خيار التنمية والمساواة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان وإنهاء الفساد الممارس من قبل السلطة.. وأن غياب تلك العوامل سبب رئيس للعنف والتطرف وكل أشكال الإنغلاق على الهويات الضيّقة.
لقد كان مستغرباً على نطاق واسع أن توظف - إحدى المواقع الإلكترونية المحترمة وعنه نقلت إحدى الصحف المرموقة - مصطلحات من مثل : سني في مقابل شيعي لوصف حادثة بعينها، وهي ذات الصحيفة التي عنونت " قلق زيدي..إخواني من... " في محاولة للفت الإنتباه إلى ممارسة سلطوية قامعة للحقوق والحريات في مجال الأوقاف ولا نشك في حسن النيّة أحياناً، لكننا نتمنى ألا ننساق في الوسط الصحفي والثقافي والسياسي إلى مناخات التأزيم المذهبي والمناطقي الذي يحاول أن يؤسس لنفسه في اليمن والمنطقة حضوراً بديلاً عن الديمقراطية والحرية والتنمية، وهروباً من مواجهة الأزمات المستفحلة بين حكام المنطقة وشعوبها من جهة، وهذه الشعوب ومشروع الهيمنة الأجنبية الذي يسعى لإحداث حالة من الفرز في المنطقة بين (متطرفين ومعتدلين، وسنة وشيعة، وعرب وغيرعرب، ومسلمين ومسيحيين.... إلخ) والملاحظ أن تراجع الإهتمام الغربي والأمريكي تحديداً في التبشير بمشروعه الديمقراطي، لصالح العسكري والأمني أعاق ويعيق تطلعات الشعوب وقوى التغيير نحو الديمقراطية والتنمية والحداثة.
ومما نخشاه أن تستمر لعبة السلطة في بلادنا في اللعب على التناقضات المذهبية، الفكرية وحرق الكروت التي تجيدها، ومدار الحساسية من توظيف المكونات الدينية والإجتماعية يكمن في خطورة سوء ذلك التوظيف والتلاعب على المصطلحات (سني - شيعي، شافعي – زيدي، شمالي - جنوبي، عدناني - قحطاني، هاشمي - قبيلي... إلخ) على الوحدة الوطنية والنسيج الإجتماعي وقيم التسامح والعدل والمساواة المنشودة والتقدم والحداثة، ولا يعني ذلك إنكارها في الواقع ومصادرتها – أي تلك المصطلحات ودلالتها بل التعاطي معها في سياقها الموضوعي، بعيداً عن سوء التوظيف أو الحشر في سياقات الإثارة، وللغرائز والعواطف.
لقد كشفت تداعيات الحروب على صعدة عن فداحة السياسات الخاطئة للنظام بتوظيف الخطاب الديني والجماعات الدينية للتعبئة للحرب، ومصادرة الحريات الدينية والفكرية والسياسية، والتي انعكست على مجمل الحياة السياسية والإقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان، لقد عجزت كل آلة النظام الدعائية عن تسويق الحرب بمبررات طائفية أو مذهبية في الداخل والخارج، وجوبهت على امتداد الوطن بالرفض والدعوة لإنهائها ونبّهت وبشكل كبير جل المثقفين والكتاب إلى خطورة اللعب بالورقة المذهبية والتحذير من نتائجها وانعكاساتها السالبة على كل الأصعدة.. مما أفشل مشروع الفتنة الطائفية حاضراً وفي المستقبل بإذن الله.
إن على المثقفين والمبدعين وأصحاب الرأي دحض وتفنيد النعرات الطائفية والجهوية، ورفض كل أشكال التمييز على أساس المذهب والعرق والمنطقة بدلاً عن خوض البعض سجالات حول مفاهيم بالية ولا تفيد الواقع في شيء فيها استنزاف للطاقات والعقول، وتأخذ بالمجتمع بعيداً عن المطالبة بحقوقه المعروفة والمشخصة، وجوهرها تحقيق مفهوم المواطنة المتساوية كهوية جامعة لما سواها من الهويات الصغيرة والخاصة، فالأكيد أن مفهوم المواطنة يحتاج – لكيما يتحقق – إلى نضالات، وأدب ومثابرة وصبر وتربية طويلة المدى.
ومن المحزن الإعتراف أنه برغم مرور قرابة نصف منذ قيام ثورتي الشمال والجنوب وقيام الوحدة فلم يزل مفهوم المواطنة كهوية جامعة.. غائباً في الفكر والممارسة والسلوك.. رغم تجلياته المفاهيمية في نصوص الدستور والقوانين، فالإنسان اليمني اليوم – غالباً- ما يتم اختزاله وتعريفه من خلال : المنطقة – المذهب – الإنتماء الإجتماعي أو السياسي للأسف، ووفق ذلك التصور يصبح الإنسان مجرد عنوان أو قالب، تتحدد من خلاله حقوقه الممنوحة وموقعه في الوظيفة العامة وغيرها بموجب إحدى تلك الهويات لا بكونه مواطناً يتساوى مع كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات.
وبلا شك فإن مسئولية السلطة والنظام السياسي القائم فيما آلت إليه البلاد من أوضاع خطرة تستدعي إصلاحاً – من ثمّ – للنظام السياسي ينعكس على مجمل البنى الإجتماعية والسياسية والثقافية تعيد في المحصلة للمواطنة وهجها وقدسيتها، وساعتئذٍ تؤول كل مفردات الواقع الإجتماعي والديني والسياسي والفكري إلى مجال للإضافة والإغناء، يستمد من موروث التعايش والتسامح.. ومن إيماننا بالمواطنة المتساوية والآخر في قرارتنا الإنسانية، إن كل اشتغال على صراع الهويات، وكل دعوة للتمترس والإنغلاق هي دعوة مشبوهة، وكل نزوع نحو إيجاد مناخات للعداء الديني والعرقي والجهوي في الوطن اليمني هي تبرير للإستبداد والفساد القائم والسير إلى مجهول التشظي والتفتيت ولا معنى آخر.
[email protected]