إلى وزيري التجارة والإدارة المحلية: ما جدوى القرارات التموينية المتتابعة؟

إلى وزيري التجارة والإدارة المحلية: ما جدوى القرارات التموينية المتتابعة؟ - يحيى سعيد السادة

سؤال بات يطرح في أكثر من مكان، إذْ لا شيء يعكر المزاج ويجهد النفس غير الفقر والحديث عن ظاهرة الأسعار المشتعلة في ظل القرارات التموينية المتتابعة التي لا جدوى من إصدارها كونها مجرد إلهاء لا أكثر، نظرا لعدم ملامستها الجرح المعيشي الغائر في حياة كل مواطن، والذي يزداد نزيفه عند شروق وغروب كل شمس. إذْ لا أحد خارج نطاق منطقة الترنح وفقد التوازن غير نسبة ضئيلة من المتخمين بالثراء، بينما السواد الأعظم من الناس في خضم معترك الجوع الذي تدير رحاه نظرية دارون تحت عنوان "البقاء للأقوى". كثيرة هي القرارات التي صدرت منذ شهر أكتوبر 2006 وحتى الآن، بما في ذلك القرار الأخير الصادر عن وزارة الإدارة المحلية برقم 262 وتاريخ 8/6/2007 المتضمن في فقرته الرابعة إشهار قائمة تسعيرة السلع على واجهة المحلات التجارية والمذيل بتوقيعي وزير الصناعة والتجارة ووزير الإدارة المحلية. الخوض في نقاش هذه الفقرة سيقودنا إلى متاهات لا تخدم المواطن أطلاقا بقدر ما تصيبه بإحباطات هو أساسا في غنى عنها؛ كونه سيمنى بنهار شاق ومضنٍ يفقد على إثره القدرة على الحركة دون الوصول إلى نتيجة. ما لم يضطره تفكيره إن كان شبه معتوه إلى الدوران يوما آخر ليصرع من جديد. إذ أن التسليم بجدلية تنفيذ هذه الفقرة بحجة أن يهتدي المواطن إلى أقل الأسعار من خلال البحث والمقارنة ستضع المستهلك أمام آلاف القوائم التي تتطلب منه البحث اليومي عن الأسعار المنخفضة إن وجدتْ، مضطرا لقراءة تفاصيلها في جميع المحال التجارية للوصول إلى هذه الغاية والتي يصعب تحقيقها في مدينة من المدن الكبيرة كأمانة العاصمة مثلا؛ إذْ تتطلب المهمة أياما وقد تمتد لأسابيع. وبما أن الأسعار في ارتفاع يومي كما هو ملموس فإن مهمة المستهلك لن تتوقف؛ أذْ كلما عاد إلى المربع الأول الذي بدأ منه البحث يفاجأ بالسعر قد تغير لمصلحة البائع، كون القرار لم يلزم التاجر بتسعيرة معدة أساسا من وزارة التجارة، وإنما ترك القرار للتاجر ليحدد بنفسه السعر على ضوء الفواتير المستحدثة من تجار الاستيراد ووكلاء الشركات المحلية. بصورة مختصرة: يحتاج المستهلك إذا كان موظفا وأراد شراء علبة حليب أخذ إجازة مسبقة من عمله عله يجد تاجرا من أهل الكهف يبيعه بسعر سابق أما إذا كان المستهلك قادما من الريف فهذه مشكلة أخرى خاصة إذا كان أمياً لا يقرأ؛ إذْ يحتاج أولا إلى استئجار مترجم ليدور معه في المحلات التجارية ويشرح له بتأنٍّ ماركات السلع وأسعارها والفوارق الناجمة عن البحث. هذه المهمة تحتاج بلا شك أياما يحتاج فيها القادم من خلف أسوار التحضر إلى مصاريف وجبات وتنقلات وإقامة في فندق مع مترجمه يعود بعدها بالتأكيد إلى مسقط رأسه خالي الوفاض، إن لم يكن مديونا أو مصابا بمرض الدوار وتشقق القدمين. أما إذا كان ممن لهم القدرة على فك الحروف ولو بصعوبة فإن مهمته ستكون أبطأ وقد تقوده إلى الارتطام بدراجة نارية أو سيارة لا سمح الله، نتيجة انشغاله بفك حروف القوائم من متجر إلى آخر. الناجي الوحيد من هذه المتاهة البارّ بوالديه إذا ما وفق بنشال محترف يخلصه من هذه المهمة الشاقة بحيث يضطر للعودة إلى قريته مشيا على الأقدام، إذ لا جدوى من أي قوانين أو قرارات حتى لو أقحم في التوقيع مجور وبقية أعضاء فريق حكومته ما لم تصوب نحو الخلل أيا كان مركز الشخص الذي يقف وراءه، سواء كان هذا المركز ماليا أم قبليا أم سياسيا. إذ لا حصانة لأحد عندما يمس استقرار وأمن البلد ويعرضه لأخطار في سبيل تكويم المال، سواء في بنوك محلية أم أجنبية من قبل تجار الموت. فالأمن الغذائي المتمثل بحالة الشعور بالاطمئنان بتوفر المواد والسلع بأسعار مناسبة هو الترجمة الفعلية لمفهوم الأمن القومي، على اعتبار أن التخريب في الجانب المعيشي هو الأشد خطورة من غيره، كون الآثار المترتبة على ذلك لا تقتصر أضرارها على أشخاص أو فئة أو شريحة معينة بل الوطن بأكمله وبكل مكوناته، الأمر الذي يعفي الدولة من مهادنة المتلاعبين بأقوات الناس. فقرار إشهار التسعيرة ليس وليد توقيعي الوزيرين آنفي الذكر، إذْ صدرت قرارات مماثلة في شهر أكتوبر 2006 متضمنة فقرة الإشهار التي لم ينتج عنها أية حلول إن لم تكن قد ساهمت في تشجيع التجار على رفع الأسعار بمعدلات أعلى؛ إذ زادت أسعار المواد والسلع بين شهري أكتوبر 2006 ويونيو2007ى بمعدل 35% للمواد الأساسية، بينما معدل ارتفاع الزيوت 60% كانت القوائم خلال تلك الفترة مشهرة في واجهة المحلات والتي شكلت في الأساس غطاء شرعيا للتاجر على اعتبار أن مسألته تنتهي عند إشهاره للقائمة بغض النظر عن السعر الذي تحتويه. إن التذرع بالأسعار العالمية أمر مقبول فيما لو كان هذا الارتفاع منطقيا بحيث نتأثر به كلما طرأ على الدول الثمان الصناعية والأوروبية الأخرى ودول جنوب شرق آسيا طارئ يدفعها إلى رفع أسعار منتجاتها وهذا الأمر لا يمكن حدوثه إلا بين فترة زمنية وأخرى؛ إذ لا يعقل أن تعيش حكومات تلك الدول على الفوضى من خلال التغاضي عن رفع الأسعار بمعدل يومي أو أسبوعي كما هو حالنا، كونها تدرك قبل أن تقدم على أي فوضى معيشية، المصير الذي ينتظرها إذا ما لاح في الأفق موعد الاستحقاق الانتخابي. فمشكلتنا فيما نحن عليه من فوضى سعرية تكمن في خلط الأوراق التي اعتدنا على خلطها بحيث يتعذر علينا التمييز بين المسؤول والتاجر. فكثير من المسؤولين وهذه حقيقة لا مهرب منها هم في حقيقة الأمر رجال أعمال يحملون حقائب سياسية، إذ نجدهم في أكياس القمح والدقيق وفي علب السمن والزيوت، في حليب الأطفال ولعبهم، في كل شيء تتطلبه معيشة المواطن اليومية. إذاً أي قرارات هذه التي تصدر طالما لا تقترب من مصالح هؤلاء؟ وأي معالجات مؤمل فيها؟ لا شيء. إجابة واضحة حملتها جميع القرارات التي صدرت والتي منحت المواطن فقط حق الإطلاع على قوائم الأسعار التي تعطي التاجر الحق في تغييرها كلما منحه تاجر الاستيراد أو المنتج المحلي إذنا بذلك. لا حل ولا خروج من هذه الدوامة دون الفصل بين العمل السياسي والعمل التجاري، ومن ثم تدخل الدولة بقوة على هذا الخط لإثبات مصداقيتها، بعد أن تكون قد تسلحت بالإرادة والتصميم على تغيير هذا الواقع المعيشي المضطرب والمخيف من خلال اتخاذ بعض الإجراءات المتواضعة والخجولة:
- الإشراف المباشر على السلع والمواد المستوردة وبالأخص المواد الأساسية لتحديد النوعية والجودة والسعر في بلد المنشأ ومن ثم وضع هامش ربح لتجار الاستيراد والجملة والتجزئة بعد إضافة المصاريف الإدارية.
- إعداد لائحة بالأسعار من قبل وزارة الصناعة والتجارة لمختلف السلع المستوردة والمصنعة محليا مع عدم السماح لأي كان بتجاوز تلك اللائحة دون الرجوع للوزارة.
إذ لا يعقل أن يترك الحبل على الغارب إلى ما لا نهاية بذريعة حرية السوق. هذه الحرية التي ضاعفت من ثراء بعض التجار وزادت الفقراء فقرا. هذه الحرية التي لا سقف لها هي التي سلبت المواطن حريته في أن يعيش مكرما. الحرية المطلقة التي لا ضوابط لها هي رديف لحرية الفوضى والعبث والاستهتار وهي النقيض لمفهوم الانعتاق.
 تدخل الدولة في هذا الظرف بالذات لإخراج المواطن من عنق زجاجة التاجر المتهور والأرعن، ضرورة ملحة تفرضها مؤشرات التدهور المعيشي بحيث يتعدى هذا التدخل حالة إصدار الفتاوى المملة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إلى مواقف أكثر جدية وأكثر حسما وأكثر مسؤولية، بحيث يتمكن المواطن البسيط من ملامسة نتائجها على أرض الواقع. عندها يمكننا القول للوزيرين، هلال والمتوكل: هكذا ترد الإبل يا أصحاب المعالي.