ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة - ابوبكر السقاف

مجموع تصورات متباينة في مجالات الفن والفلسفة وعلم النفس واللاهوت، وفي الثقافة المعاصرة. ولا ترتبط فيما بينها إلا بالشك في إمكان قيام الفلسفة ببناء وجهة نظر أو رؤية أو خريطة نظرية في الفن والأدب. فالمواضعات الحديثة المبنية على المفهومات الكلاسيكية: في الذات والموضوع، وفي الحقيقة المطلقة والنسبية، وعلى الإيمان بدور العلم في وصف وتفسير وتغيير الواقع، ثبت أنها تداعت أمام اختبارات الزمن؛ لأن العلم والفلسفة فشلا في التعامل مع الطبيعة والمجتمع، إذ عجزا عن تبيان قوانينهما. ولا يمكن الحديث عن «ما بعد الحداثة» بما هو تيار واحد أو قائم على فلسفة واحدة. ويجري الحديث في الأغلب عن الخطاب (المقال) أو الوضع «ما بعد الحداثي» في الفلسفة والثقافة. وقد تبلور المفهوم في ثمانينيات القرن الماضي.
ويمكن أن نزعم أن هذا التيار مركب من ما بعد البنيوية والنقد التفكيكي والانتاج الأدبي والفني في أوروبا وأمريكا. وقد حاول صوغ «رؤية جديدة إلى العالم» والحدود هناك، وكذلك التعريفات لها طابع نسبي، فكثيراً ما يواجهنا خلط في المصطلحات ينتج عن استخدام مصطلحات متقاربة بدلالة واحدة فتبدو كما لو كانت متطابقة.
وعلى أية حال يمكن أن نقول إن تيار ما بعد البنيوية كان المدخل أو المرحلة الأولى من ما بعد الحداثة. ويبدأ تاريخ (م. ب. ح) في الثمانينيات عندما حاول غير مؤرخ للأدب جمع شتات تجارب العقود الأخيرة في الثقافة الغربية في متحد فكري يشترك أصحابه في عدد من المسلمات النظرية ويبدعون نصوصاً يرين عليها روح واحد.
إن جمع هذه الظاهرة، وهي متعددة الملامح والمدارس، في كيان واحد أو تيار محدد، يمكن أن يسعى إليه بصوغ وسائل تحليل متجانسة، ويتبين عندئذ أن المشترك بينها هو ما أشير إليه آنفاً، أي: نزعة الشك.
كان إصدار أحد أعداد مجلة «كريتكل إنكوايري» العام 1980 محاولة لكشف الظواهر أو السياقات المتوازية في (م. ب. ح) وراء تزايد الاهتمام بهذا التيار.
ويمكن الإشارة بصفة خاصة إلى الجهود البارزة عند: ديفير وجنكس وأوليفاد باتكر وديهامين وستينر، وكل أعمالهم صدرت بين عامي 1980 و1986 وتنصب على الأدب والفن والعمارة الحديثة. ومن الضروري الإشارة إلى جهود الباحثين الذين حاولوا إبراز الأسس التي تقوم عليها «حساسية ما بعد الحداثة» التي اعتبرت معلماً أساسياً تشير إلى «روح العصر» الذي أنتج (م. ب. ح) بما هو تيار استاطيقي متميز ومن هؤلاء إيهاب حسن وديفيد لوج ووايلد وفوكيما وليوتار ومازارو وظفار زاده.
إن أكبر ملمح مائز في (م. ب. ح) ولا سيما في مؤلفات ليوتار هو الرفض المبدئي لإمكان وصف الواقع وصفاً جامعاً لكل جوانبه، ونقد المعايير الفلسفية الكلاسيكية أي العقلانية. ومحاولة تأسيس فكرة مفادها استحالة قيام فهم متبادل بين التصورات والمفهومات الفلسفية؛ وذلك لغياب حقل معنوي (المعنى) كوني وكذلك لغة واحدة مشتركة، وهذا يعني عملياً التحطيم الكامل والمنهجي والواعي لجهاز المقولات الفلسفية.
يرى ممثلو (م. ب. ح) أن الخطاب الذي ظل سائداً في مجالات دراسة الفن منذ عصر النهضة قد استهلك ولم تعد له أية جدوى، وأن هذا الاكتشاف غيَّر تغييراً جوهرياً تجليات وصور الفن. إذ كانت العلاقة فيه بين العلامة والمعنى (الدلالة) مندغمة حتى الذوبان في سياق العمل الفني وفقاً للتصور الكلاسيكي. أما في الفن الجديد فإن الأولوية لأنموذج الفن الموضوعي، وهو ما سماه رولان بارت: «مجرة الدال»، وليست له أية وظيفة معرفية، فقد توقف الفن عن الطموح إلى الجدة والأصالة (الفرادة). وجرى تصحيح قضايا كثيرة في فهم مسار الابداع الفني. كان الإبداع الفني ينظر إليه سابقاً باعتباره تحقيقاً لأفكار الفنان في إنتاج فني، ونُظر إليه بما هو مشروع له سمة واحدة تجمع الفنان والمهندس والعالم. أما الآن فإن الفنان كف عن أن يكون فناناً وفقاً لهذا المفهوم التقليدي الذي يعود إلى اليونان القديمة بدلالة الدمج والتوحيد بين هذه الشخصيات، ولذا يرفض أن يعمل بقواعد وقوانين هذا الفهم التقليدي (تلخيص لصفحات من كتاب مخطوط في نسخته العربية: ما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة).
وقد تغيرت وظائف الرموز في (م. ب. ح) إذ تم إلغاء أهم مبادئ الفن السابق: الاصطلاح والأسلوب والصورة وفرادة الانتاج الفني؛ وتجري الدعوة بنشاط إلى مبادئ مناقضة لها، توصف بأنها ذات قيمة استاطيقية مخفضة فهي عادية ونفعية بل ومبتذلة؛ وبذلك تطمس الحدود في (م. ب. ح) ففي الماضي كانت الحدود تميز بين الإصطلاح والعالم الواقعي، ولذا لا يسمي أنصار (م. ب. ح) أعمالهم فناً، بل «عملاً روحياً» أو «فعلاً ثقافيا»...
غيرت هذه المدرسة «صورة فن العمارة والسينما والرقص (الكوريوغرافيا) والأدب والشعر، وابتكرت ألواناً جديدة من الفن، لم توجد من قبل: بوب آرت وبودي آرت وانشتاليش وبيرفورمانس وهابيننغ.
تشكلت استاطيقا (م. ب. ح) بتأثير مباشر من قبل فلاسفة كبار في النصف الثاني من القرن العشرين: بدريار ودولوز وغايتاري ودريدا وجيمسون ف. وليوتار وكريستيفا. (تلخيصاً عن كتاب مخطوط، ما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة).
وترقى جذور هذا الاتجاه فلسفياً إلى قلب هايدغر في «الوجود والزمان» (1927) الكوجيتو الديكارتي فذهب إلى وجود الذات بما هي آنية (دازاين) «سابق لإدراك الذات الذي بنى عليه ديكارت الإدراك الحدسي للكوجيتو. وقال هايدغر بضرب من نهاية الفلسفة بالدلالة التاريخية لا المطلقة؛ فإذا كانت العلوم الوضعية قد ورث الفلسفة الميتافيزيقية، فإن الشعر يجب أن يخلف العلوم الوضعية، وإن أوجب مع ذلك العودة إلى الميتافيزيقيا في ما أسماه الأنطولوجيا الأساسية، التي يقول إنها تختلف عن الوجودية. أشار ماجد فخري محقاً إلى أن استاذه ادموند هوسرل قد بحث في كتابه «أزمة العلوم الأوروبية والفينومو- نولوجيا المتعالية» (1936) في أزمة قابعة «في صلب الفكر الأوروبي فنعن على العقلانية المتحجرة إسقاطها للأسس العملية والأطر الثقافية للكشوف العملية». (ماجد فخري، الفلسفة العربية أمام حركات التفكيك والتشكيك المعاصرة، ما بعد الحداثة... أو الشكل المعاصر للسفسطائية ونسبية الحقيقة- «الحياة»، 27/2/1998) (ما بعد الحداثة، ولأنه يدافع عن الموقف الفلسفي الكلاسيكي، حرصت على إيراد مقال الزميل ماجد فخري لندرة الكتابات العربية عنه).
وإذا كان ليوتار قد استنتج ضرورة إلغاء العلم والفلسفة، والاستعاضة عنهما بالرواية في صورة الاهتمام بالسرديات الصغيرة بعد انهيار السرديات الكبرى القديمة ذات الدلالات العامة: الأمة والوطن والانسانية... إلخ، ذاهباً ببعض آراء هوسرل إلى نهايتها القصوى؛ فإن دريدا طمس القرون والحدود بين الأدب والفلسفة. وجعل دولوز وغايتاري الفنان مريضاً في مجتمع مريض، ولا يمكن فهمهما إلا بتحليل شيزوفريني (فصامي). (راجع إن شئت: مصطلح التسامي في التعريفات). وانطوى فكر (م. ب. ح) على مدرسة ما بعد الفكر الاستعماري، والتعددية الثقافية، والاعتراف بالآخر، ومناصرة المدارس الانثوية، ورفض فكرة «اللياقة السياسية (بوليتكل بونتيكل كوركتينس) اليمينية، ومناصرة الثقافات غير الأوروبية والمطالبة ضداً على دعاة «اللياقة السياسية» بإدراجها في برامج التعليم في أمريكا.