الجماعات السلفية.. النشأة والمسار

الجماعات السلفية.. النشأة والمسار - نبيل البكيري

نشأت الجماعة السلفية في اليمن تحت تأثير ظاهرة الإحياء السلفي في السعودية والخليج، في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي حديثة النشأة في اليمن، إذ يعود تاريخها إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين عاد إلى اليمن الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (رحمه الله) قادما من مكة المكرمة، بعد أن أفرجت عنه السلطات السعودية بعد ثلاثة أشهر قضاها في السجن بتهمة الاشتراك فيما عُرف حينها بفتنة جهيمان العتيبي، الذي استولى على الحرم المكي عام 1979م، وأعلن ظهور المهدي المنتظر. وكانت السلطات السعودية تتهم الشيخ الوادعي بأنه وراء كتابة بيانات جهيمان، بحجة أن جهيمان كان لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وهذا ما نفاه الشيخ الوادعي فأطلقوا سراحه.
من هو الشيخ مقبل؟
ينتمي الشيخ مقبل بن هادي الوادعي إلى وادعة، أحد أفخاذ قبيلة بكيل اليمنية المشهورة، والتي يقطن جزء منها في محافظة صعدة، معقل المذهب الزيدي في اليمن، والذي يعد أقرب المذاهب الشيعية إلى أهل السنة، وينسب مذهبهم إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، والذي تأسس في اليمن من قبل الإمام الهادي يحيي بن الحسين الرسي الذي قدم إلي اليمن سنة 284ه.
وكان الشيخ الوادعي قد درَس بعض العلوم في العربية والفقه الزيدي، وحفظ القرآن في كُتَّاب قريته، قبل أن يذهب إلى مدينة صعدة لتلقي علوم المذهب الزيدي هناك، والتي ما لبث أن تركها سريعا لعدم ارتياحه للجو الطائفي الذي يفرزه التعليم المذهبي والتقسيمات الطائفية التي كانت سمة بارزة حينها.
ترك الوادعي صعدة عائدا إلى قريته بعد خلاف مع بعض زملائه الذين كان يدرس معهم الفقه الزيدي، وبعد فترة من الإقامة في قريته توجه إلى الحجاز بحثا عن عمل هناك، كغيره من اليمنيين الذين توجهوا إلى السعودية التي شهدت حينها نهضة عمرانية بفعل اكتشافات النفط فيها.
وبعد أن وصل إلى مكة وحصوله على عمل يقتات منه، التحق ببعض حلقات العلم فيها، وأخذ يقرأ العديد من الكتب، كصحيحي البخاري ومسلم، وكتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، فكان تأثره بهذا الكتاب الأخير دافعا له إلى الالتحاق بأحد المعاهد الدينية، حيث أتم فيه دراسته الثانوية، وبعدها التحق بجامعة محمد بن سعود، وكان أثناء فترة دراسته يتردد على بعض المشايخ في مكة، يدرس على أيديهم ويستفيد منهم. ويذكر أن الشيخ الوادعي درس في كليتين معا في نفس الوقت، هما كلية الدعوة وكلية الشريعة.
واصل الوادعي دراسته العليا في الماجستير، رغم أنه لا يؤمن بعلم الشهادات الحديثة، إلا أن الاعتقالات التي تلت حادثة جهيمان أحالت دون إكماله للماجستير، وعاد بعدها إلى اليمن.
ومن خلال دراسته وإقامته في السعودية، كان الوادعي قد تأثر كثيرا بالسلفية السعودية، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو (أي الوادعي) القادم من بيئة زيدية معتزلية تقدم العقل على النقل إلى بيئة سلفية حنبلية تقدم النقل على العقل، مما أحدث تغييرا وتحولا فكريا كبيرا لدى الشيخ الذي عاد إلى قريته دماج بفكر جديد يتصادم كليةً مع فكر ومعتقدات صعدة الزيدية، فواجه عنتا شديدا في بداية الأمر، أحدث له الكثير من المشكلات التي بدأت تخف شيئا فشيئا بعد بنائه لجامع صغير في قريته، تجنبا لمزيد من هذه المشكلات.

مرحلة الاستقطاب والتفريخ
ومع مرور الأيام تطور المسجد حتى صار معهدا كبيرا توافد إليه الطلاب من أنحاء اليمن والعالم الإسلامي، كمصر والكويت والجزائر وأوربا، لتلقي علوم الحديث على يد الشيخ مقبل، الذي يعد بشهادة الكثيرين محدث الديار اليمنية، بل محدث العصر بعد الإمام الألباني.
وهكذا غدت دار الحديث في دماج (قرية قريبة من مدينة صعدة، على بعد 240 كيلو متر إلى الشمال من صنعاء) بمثابة النواة التي بدأ منها التيار السلفي يمتد إلى معظم أرجاء اليمن، مُخَرِّجا عددا من طلاب العلم الذين أصبحوا اليوم مشايخ يديرون العديد من المعاهد والجمعيات والمراكز السلفية، كمركز معبر الذي يديره الشيخ محمد الإمام في محافظة ذمار، ومركز مأرب الذي يديره ذو الأصول المصرية أبو الحسن المأربي المصري، ومركز في مدينة الحديدة يديره الشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي، وعدد من المراكز الصغيرة في كل من صنعاء وتعز وعدن وإب وحضرموت.
وبحسب الباحث اليمني عبد الفتاح الحكيمي، فإن الجماعة السلفية (إن جاز إطلاق لفظ الجماعة عليها) تتميز عن غيرها من الجماعات الإسلامية بمنهجها الإحيائي للإسلام، من خلال فصل العبادة عن السياسة، وإقامة دولة الإسلام بتطبيق ما جاء في القرآن والسنة، أما الانتخابات والحزبية والدستورية والجمعيات فكلها كفر في كفر لا تقوم معها الدولة الإسلامية. وجملة هذه الآراء هي آراء الشيخ مقبل بن هادي الوادعي التي بثها في العديد من أشرطته وكتبه.
وللشيخ مقبل أيضا الكثير من الآراء المتشددة حول العديد من القضايا الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية، والتي تصدر عن ذهنية تحريمية لكل شيء، ابتداءً بالديمقراطية الكافرة، وانتهاءً بملاعق الأكل التي كتب فيها رسالة تحت عنوان "الصواعق في تحريم الملاعق"!!.

التشدد يولد الانشقاقات
هذه الذهنية التحريمية والآراء المتشددة الصادرة عن الشيخ، وخاصة فيما يتعلق بتحريم تشكيل الجمعيات باعتبارها شكلاً من أشكال العمل الحزبي، كانت مبررا وسببا رئيسيا للانقسام الكبير في هذا الجماعة بداية من تسعينيات القرن الماضي، من خلال خروج مجموعة من كبار طلاب الشيخ، على رأسهم الشيخ محمد بن موسى العامري، مؤلف كتاب (الشيخ مقبل الوادعي، آراؤه العلمية والدعوية، دراسة نقدية)، وهو زوج إحدى بنات الشيخ مقبل الوادعي.
هذا الانقسام أو الانشقاق عن الشيخ كان بمثابة تدشين ظهور تيار سلفي جديد برؤى جديدة، أكثر عصرية وحداثة من آراء الشيخ مقبل التقليدية المنغلقة، والتي أدت إلى مثل هذا الانشقاق الذي يمثل بداية ظهور لتيار السلفية المنظمة، أو ما يمكن تسميته بالسلفية الحركية، التي بادر عدد من مشايخها المنشقين عن جماعة الشيخ مقبل إلى تأسيس جمعية الحكمة اليمانية الخيرية، وإصدار مجلة الفرقان التي ردوا من خلالها على الكثير من آراء الشيخ مقبل وفندوها، قائلين بأن آراء الشيخ لا تمت إلى السلفية بصلة.
وبتأسيس جمعية الحكمة اليمانية يمكننا التمييز بين جماعتين سلفيتين، الأولى هي الجماعة السلفية التقليدية بزعامة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، (والتي انشقت هي الأخرى بعد وفاة الشيخ عام 2001 م إلى جماعتين) والثانية هي الجماعة السلفية الحركية، والتي تمثلها اليوم جمعيتان خيريتان هما جمعية الحكمة اليمانية وجمعية الإحسان الخيرية.
الجماعات السلفية التقليدية
وهي الجماعات التي ظلت على نفس الخط الفكري للجماعة الأم التي أسسها الشيخ مقبل الوادعي، الذي كان وفاته سببا في انقسام جماعته التقليدية إلى جناحين أو جماعتين بعد خلاف حاد حول من الذي سيقود الجماعة بعد غياب الشيخ، ويجلس على كرسي الحديث في دار الحديث بدماج، والذي شغله ويشغله حتى الآن الشيخ يحيى بن علي الحجوري.
طرفا الخلاف كلاهما كانا من تلامذة الشيخ مقبل، وهما الشيخ يحيى بن علي الحجوري، والشيخ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري، المأربي سكنا.
ويتردد بين أتباع وأنصار الشيخ الحجوري أن الشيخ مقبل بن هادي الوادعي قد أوصى له بخلافته والتربع على كرسي درسه في دار الحديث بدماج الذي يعد المعقل الرئيسي للسلفية التقليدية في اليمن.
هذا الخلاف على زعامة السلفية التقليدية تطور ليصبح خلافا فكريا بين الطرفين حول عدد من المسائل التي يعد الخلاف حولها وعدمه سواء، لدخوله ضمن ما يمكن تسميته بالترف الفكري، وإن صوره الطرفان على أنه خلاف في المنهج، رغم كونه مجرد تهم يكيلها كل طرف للآخر، من قبيل اتهام الحجوري وأنصاره لأبي الحسن المأربي بأنه يسعى إلى تفريق الدعوة السلفية وتمييعها، وأنه (أي أبو الحسن) يدعو إلى وضع أصول جديدة في إطار الدعوة السلفية، وأنه يسعى أيضا إلى الثورة على أهل السنة، فضلاً عن استغلاله لأموال جمعية البر الخيرية التي أسسها مخالفا بذلك فتوى الشيخ مقبل في تحريم الجمعيات الخيرية؛ لأنها لا تخرج عن إطار العمل الحزبي المحرَّم.
ولعل ما يميز جماعات السلفية التقليدية هو كثرة خلافاتها التي تبدأ بخلافات شخصية بين الشيوخ، وتتطور إلى خلاف عقائدي منهجي، كالخلاف القائم بين الشيخين الحجوري والمأربي، أو الخلاف القائم بين الشيخ عائض مسمار الحاشدي والشيخ محمد الإمام الذي يدير مركز معبر، أحد معاقل السلفية التقليدية في محافظة ذمار.
هذه الخلافات والانقسامات في إطار هذه الجماعات السلفية التقليدية هي نتاج طبيعي للجمود الفكري والانغلاق الذي فرضته هذه الجماعات على نفسها، منطلقة من فكرة الطائفة الناجية التي يمثلونها دون غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى، التي هي في نظر هذه الجماعة فرق مبتدعة، لا تمت إلى السُّنة بصلة.
هذا الانغلاق جعل هذه الجماعة تعيش خارج إطار العصر والزمان، بتحريمها لكل شيء جديد، ومصارعتها لسنن التبدل والتحول في الكون والحياة، مما جعل أنصارها في انحسار دائم.
وتدعو هذه الجماعات إلى العيش وفق ظروف عصر صدر الإسلام، لكي تطبق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أراد، بحرفية هي أقرب إلى السطحية منها إلى الإقتداء به صلى الله عليه وسلم.
الجماعات السلفية الحركية
ويمكن أن نطلق على هذه الجماعات "السلفية الحركية"، وهي تنطلق من نفس المرجعية الفكرية والفقهية والعقائدية للسلفية التقليدية، ويقودها - كما أسلفنا - مجموعة من طلاب الشيخ المؤسس للسلفية في اليمن، مقبل بن هادي الوادعي، والذين اختلفوا معه في جواز إنشاء الجمعيات الخيرية، وهل هي نوع من العمل الحزبي المحرم أم لا؟.
وكانت هذه أهم نقاط اختلافهم معه، والتي دفعتهم للخروج عنه، وتأسيسهم لعدد من الجمعيات الخيرية، لتكون واجهة لعملهم الدعوي والخيري، أهمها جمعيتان اثنتان، هما جمعية الحكمة اليمانية الخيرية، التي تأسست أولاً عام 1992م، والثانية هي جمعية الإحسان الخيرية التي تأسست بعد جمعية الحكمة مباشرةً.
وكانت مناقشة مثل هذه المسائل تجرهم إلى مناقشة شرعية العمل الحزبي السياسي، والانتخابات، والديمقراطية التي تعد من المحرمات والكفر البواح عند الشيخ مقبل الوادعي، مما جعلهم يتوقفون عن إصدار الأحكام حول شرعية هذه الأعمال من عدمها، بل والحث على مناقشتها وبحثها من قبل العلماء للخروج برأي.
مثل هذا التوجه لهذه الجماعات أكسبها قبولاً كبير بين أوساط الناس، وسهل من مهامها وأهدافها التي سعت لتحقيقها من خلال الجمعيات التي أنشأتها كمظلة لأعمالها الدعوية والخيرية، التي تصب جميعها في نشر العلم الشرعي بين الناس، لإيجاد الفرد المسلم وبنائه فكريا وعقائديا، من خلال تزويده بالقدر اللازم من العلم الشرعي الذي سيساعد على إحياء السنن وإماتة البدع.
ولتحقيق هذا الهدف بدأوا في بناء المعاهد الشرعية والمساجد ومدارس تحفيظ القرآن، فبنوا عددا من المعاهد الخاصة بهم في كل من صنعاء وعدن وتعز وحضرموت، وذلك كله من أجل إعداد الدعاة والمرشدين الذين سيتولون مسؤولية نشر الدعوة السلفية، وترافق هذا مع نشرهم لآلاف الكتيبات والمطويات والأشرطة المسجلة.
ومن أجل إيصال فكرتهم إلى أكبر قدر ممكن من الناس، أصدروا عددا من المجلات، كالفرقان، والمنتدى التابعة للحكمة، وأسسوا مراكز دراسات، كمركز الكلمة الطيبة التابع لجمعية الحكمة، ومركز الجزيرة العربية التابع لجمعية لإحسان، التي كانت قد بدأت بإصدار صحيفة الرشد الأسبوعية، والتي توقفت عن الصدور.
سلفيون انتماءً.. إخوانيون حركةً
ولم يتوقف العمل التنظيمي في هذه الجماعات عند هذا الحد، بل سعت إلى مجاراة وتقليد كل الأعمال الدعوية والتعليمية التي تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين في اليمن، التي يمثلها حزب التجمع اليمني للإصلاح، حيث عمدت جمعية الإحسان إلى تأسيس جامعة الأندلس الأهلية، على غرار جامعة العلوم والتكنولوجيا التي يديرها الإخوان. وكذا الاهتمام بالمساكن الطلابية كمعاقل لاستقطاب الأنصار ونشر فكرتها في أوساط هذه الشريحة المهمة في المجتمع.
هذا الأسلوب في التعاطي مع الواقع بلغة العصر جعل هذه الجماعات تقدم صورة أفضل عن تلك الصورة المتحجرة التي قدمتها الجماعات التقليدية عن السلفية، حيث رسموا صورة معتدلة ومقبولة للسلفيين، مما جعلهم يخدمون الدعوة السلفية، وينشرون العلوم الشرعية في أرجاء اليمن، باعتمادهم هذا الأسلوب المنظم والمخطط في نشر دعوتهم.
ويلاحظ على هذه الجماعات أنها تتعاطى مع العمل الحزبي الحركي المنظم في إطاراتها وصفوفها التنظيمية، وتراقب العمل السياسي العام، ولكنها حتى الآن تحجم عن الخوض فيه كمشارك في وضع الرأي السياسي.
ومن الملاحظ في هذا الجانب أن الخلاف بين هذه الجماعات والجماعات التقليدية قد تطور إلى خلاف فكري عقدي كبير، يرى فيه التقليديون أن سلفيي الجمعيات الخيرية هم حزبيون يسعون إلي الإثراء الشخصي من خلال هذه الجمعيات، ويطلقون عليهم السروريين، نسبة إلى الشيخ السوري المقيم حاليا في الأردن، وصاحب مركز دراسات برمنجهام في بريطانيا محمد زين العابدين بن سرور، أو القطبيين نسبة إلى سيد قطب.
ويلاحظ أيضا على سلفيي الحكمة والإحسان أنهما في تقارب كبير مع أفكار الإخوان المسلمين، رغم تحفظهم في الخوض في السياسة حاليا، وإن أبدوا نوعا من التعامل مع العملية الانتخابية مؤخرا، حيث إنهما في الانتخابات المحلية والبرلمانية الأخيرة تركوا لأنصارهم الحرية في اختيار مرشحي الإصلاح الإسلامي، وخاصة أصحاب جمعية الإحسان، بعد أن ظلوا ولفترة طويلة متأثرين بأفكار الشيخ مقبل الوادعي حول مسألة الديمقراطية والانتخابات التي أفتى بحرمتها.
ومن أبرز شيوخ جمعية الإحسان: رئيسها الشيخ عبدالله اليزيدي، والشيخ عبد المجيد الريمي، المسئول عن مركز الدعوة السلفي في صنعاء، وحسين الأهدل، رئيس فرع الجمعية في حضرموت.
أما أبرز شيوخ جمعية الحكمة، فهم: عبد العزيز الدبعي، رئيس مجلس إدارة الجمعية، والشيخ محمد المهدي، والشيخ أحمد حسن المعلم رئيس فرع الجمعية في حضرموت وصاحب كتاب "القبورية في اليمن"، والذي تحدث فيه عن الصوفية في اليمن، والشيخ عقيل المقطري، داعية، والمسؤول العلمي في جمعية الحكمة اليمانية المقيم في محافظة تعز.