بقيت المنابر الثقافية التقليدية (الصحف ودور النشر والمهرجانات الثقافية) لعقود طويلة في القرن العشرين، هي الأداة المثلى لصناعة الخطاب الثقافي بتفريعاته المختلفة، وعلى رأسها الأدب المكتوب. كانت العواصم (بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق والدار البيضاء) وصحف مثل (النهار والسفير والأهرام وأخبار الأدب والاتحاد الاشتراكي والصباح) ومجلات مثل (شعر والآداب وإبداع والكاتب والكرمل والطليعة والناقد والأقلام ونزوى وأدب ونقد و... و...)، هي من تصنع الأسماء وتسوقها، وتروِّج لكتاباتها.

حاولتْ بعض العواصم الطرفية في عقدي السبعينيات والثمانينيات، إنتاج منابرها الخاصة في الصحافة وصناعة الكتاب، للفكاك من تأثير المركز وسطوته، وتقفز إلى ذهني يمنيًا "دار الهمداني للطباعة والنشر" في عدن، والتي عملت وبإمكانيات صفرية وأدوات بدائية جدًا، لنشر مئات العناوين من الكتب الأدبية والفكرية والترجمات، وقد سدت هذه الإصدارات نقصًا موجودًا في المكتبة اليمنية.
في فترة السبعينيات، صدرت في اليمن أربع مجلات ثقافية مهمة، صارت مع الوقت منابر حقيقية للكتاب والأدباء والمثقفين اليمنيين، وهذه المجلات هي: "الحكمة" لسان حال اتحاد الأدباء، وصدرت من عدن مثلها مثل مجلة "الثقافة الجديدة" التي كانت تتولى إصدارها وزارة الثقافة والإعلام في عدن، ومجلة "اليمن الجديد" التي تصدرها وزارة الإعلام والثقافة في صنعاء، ومجلة "الكلمة" الأهلية التي أصدرها في مدينة الحديدة محمد عبدالجبار سلام.

عملت بعض الدول النفطية على تأسيس منابرها الثقافية الخاصة التي تخدم مشاريعها وتوجهاتها في سعيها الدؤوب لتكون وريثًا للمراكز التاريخية في العواصم الأربع، وحده المشروع الثقافي الذي تبنته ودعمته دولة الكويت من سجل حضوره العروبي المتميز منذ إصدار وزارة إعلامها مجلة "العربي"، في أواخر العام 1958م، وأعقبتها بإصدارات المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب (عالم المعرفة، وعالم الفكر، وإبداعات عالمية، ومن المسرح العالمي).
ومع بروز الفضاء المفتوح وتقانة القرية الكونية، تبدل مفهوم المنبر بطابعه الموجه لصالح تعدد المنابر وتفكك هيمنة الرقيب وتبطل أدواته، ولم تعد صناعة الرموز وتسويقها بالأمر الشاق في هذا الفضاء المفتوح، والذي بدأ بصنع رموزه من أكثر الزوايا سيولة.
خلال العشرين عامًا الماضية، أنشئت مئات المواقع الثقافية والمنتديات الإلكترونية التي تخاطب المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي والفكري، والتي لم يعد المتحكم بها حكومات وجهات، تستثمر بواسطة الأسماء الرائجة المستكتبين في صحفها، بل صار المتحكم بها منشئوها من الكتاب والجهات غير الحكومية، الذين ضمنوا من خلالها إيصال أصواتهم لقطاع كبير من المتابعين والمهتمين في العالم أجمع، بقليل من الجهد، وكثير من الحرية. فبضغطة زر واحدة تستطيع أن تقرأ ما تريد، وتعرض بضاعتك كيفما شئت، دون كوابح ومصدَّات، وإن الكتب الممنوعة من التداول في كثير من البلدان العربية -بأوامر من أجهزة الرقابة ومنظومات الأمن- صارت موجودة في الفضاء الأزرق بأقل كلفة.
هذه التحولات التقنية أدت إلى تراجع الصحافة الورقية وصناعة الكتاب بالوسائل التقليدية؛ وحتى تواكب مثل هذه التحولات بدأت الأخيرة بالتحول إلى حالة إلكترونية للإبقاء على صلتها بالجمهور، وعلى وجه الخصوص الجمهور الجديد الأكثر ارتباطًا بما هو إلكتروني، حتى إن موضوعاتها بدأت بالاقتراب أكثر من مزاج القراءة الجديد، والذي صار ينحاز إلى كل ما هو مكثف وبسيط وسريع ومعبِّر عن وقته، لا زمن أسلافه.
أدوات التسويق في الفضاء الأزرق اليوم متنوعة وجذابة، وقادرة ليس فقط على صناعة الأسماء، بل صناعة الموضوعات والأحداث، وصار هذا الفضاء مقصدًا لكل الجماعات لترويج بضاعتها دون محاذير أو تخفٍّ؛ فالجماعات الدينية المتطرفة، على سبيل المثال، هي من أكثر التكوينات صلة بهذا الفضاء، وبواسطته تستقطب، إلى صفوفها، مئات المقاتلين المؤمنين بأفكارها الظلامية، وهي التي ترفض، في الأصل، عالم اليوم بكل ومنجزاته، وتعتبره عالم جاهلية، لكنها تستبعد من مفروزاته ونتاجاته وسائله التقنية التي تخدم مشروعاتها المنغلقة والنكوصية، وتبرر ذلك بفكرة التسخير، أي أن الوسائل سُخِّرت لها من أجل إيصال أفكارها، منطلقة من رؤى السلفيات الجهادية التي خرجت منها والتي ترفض مشروع الحداثة الكوني بمنظومته المتكاملة، لكنها تؤمن بمخرجات وسائله في الملبس والمأكل والرفاهية من باب التسخير الكلي.
قبل أن يفيق القراء والكتاب التقليديون، الذين ارتبطوا بالمنتج الورقي، من صدمة عالم الفضاء الأزرق الذي جعل المعلومة في المتناول، حتى تفاجأوا باكتساح العالم منتج رقمي بالغ الخطورة، وهو "الذكاء الاصطناعي" الذي يمكن بواسطته توليد ما لا يخطر على بال، ومنها صناعة الكتابة والتأليف، التي هي في ذات الوقت أبسط معادلات برامجه الاستيلادية، قياسًا بما هو معقد في الطب والفيزياء وبرامج الفضاء.
أخلص إلى القول إن فضاء التواصل الثقافي ومتاحاته المعلوماتية اليوم هو التجلي الحقيقي لمفهوم صناعة الوعي بطرائق لا عهد لأكثرنا بها، وإن اليقينيات والمسلمات الكبرى التي كانت تحكم رؤى وقناعات رواد الأمس، لم تعد تعني (نجوم) اليوم من الشعراء والمثقفين والكتاب والفنانين الذين صنعهم هذا الفضاء، وإن قضاياهم ومعاركهم الثقافية تختلف كلية عن قضايا ومعارك رموز الأمس وأسمائه.
أكثر أبناء جيلي وجيل الآباء يحنّ إلى الأمس بدواعٍ "نوستالجية"، ويرى أن ما ينتج اليوم هو سطحي وتافه من الكتابة إلى الموسيقى والسينما وتوليدات الذكاء الاصطناعي، وبالمقابل يرى أبناء جيل اليوم وصناع محتوى أحداثه المتسارعة، أن قضايا الأمس التي عبَّر عنها صناع رأي ومثقفون كبار، متخلفة ورجعية ومحافظة وعادية قياسًا بما يُصنعوه.
عن تجربتي الشخصية، التي عاشت وعاينت الزمنين معًا، لم أزل أحنُّ للماضي وأقرأ كثيرًا من منجزات رواده بوسائلهم تلك. لدي مكتبتي الورقية، وأرشيفي التقليدي الذي كونته على مدى سنوات، غير أنني صرت، وبحكم المواكبة الصعبة، أكثر صلة بالفضاء الأزرق، الذي بواسطته أستطيع الوصول إلى ما أريد من معلومات، وأقرأ ما لم أستطع قراءته في الماضي لصعوبة الوصول إليه.. صعوبة النشر في المنابر التقليدية بالأمس صارت اليوم سهلة، ومن خلال منابر جديدة، لها القدرة على توصيلي بمتلقين أكثر ومتنوعي الأفكار والتوجهات، وبأصدقاء ما كان لي أن أعرفهم لولا هذا الفضاء المفتوح.