خطر العنف الأسري

خطر العنف الأسري

 ليس ظاهرة أخلاقية واقتصادية فحسب وإنما ثقافية وسياسية أيضاً، حيث لا انفصال بين الحياة المنزلية وحياة الشارع، وثقافة المجتمع وتحالفات الوعي السياسي في تشكيل القوانين والأطر الحمائية..
تفاقم ضحايا العنف الأسري في اليمن، ويتحدث حقوقيون عن ارتفاع يصفونه بالخطير في جرائم الآباء والأقارب ضد الأطفال والنساء.
هذا النوع من الانتهاكات لم يعد مقتصرا من الأهل على أطفالهم وذويهم مثلاً، بل أيضا من الأبناء على أهاليهم، ومن ذلك جريمة مقتل المخرج الإذاعي عبدالرحمن عبسي واثنين من أبنائه، نهاية الأسبوع الماضي، على يد ابنه الذي أقدم على قتل والده وشقيقه وشقيقته بآلة حادة إثر خلافات نشبت بينهما.
كانت مثل هذه الظواهر متدنية للغاية في المجتمع اليمني، إلا أن الأخبار أصبحت تؤكدها خلال السنوات ال10 الأخيرة، كما بدأت بعض المحاكم والمنظمات الحقوقية تُفصح عن مشاكل أسرية أدت إلى حوادث عنف بالغة جداً.
الحاصل أن معظم المشكلات تبقى شخصية عائلية لا يجوز أن تخرج خارج أسوار البيت، فيما يفترض أن تكون الأسرة هي المكان الأكثر أمانا وسكينة.
وبشكل أساس يدخل الأمر في مسألة المسكوت عنه، حتى أصبحنا بسبب عدم الوقوف الجاد للمعالجة، نقرأ مراراً عن سقوط ضحايا من الأطفال والنساء والمسنين بسبب العنف الأسري الذي يعتبر إحدى المشكلات الاجتماعية المقلقة، وباعتباره يؤثر بشكل كبير على استقرار المجتمع وتكوينه النفسي.
من بعض الأسباب؛ اضطرابات الشخصية، أو تعاطي المخدرات والمسكرات، إضافة إلى الفقر، والتفكك الأسري، والتأثر بميديا العنف.
على أن طرائق التربية من أهم الأسباب، ويبدو معلوما أننا كأفراد لا نضع احتراما للأخصائيين الاجتماعيين والأخصائيين النفسيين، كما للأسف تعطي النصوص الدينية الحق لولي الأمر في التصرف بحقوق الأبناء.
بالمقابل يجمع ناشطون حقوقيون على أن غياب البيانات التفصيلية يعقد من تقدير حجم المشكلة في مجتمع يواجه تحولات حادة اقتصادية واجتماعية تؤثر على بنيانه.
إلا أن قياس الظاهرة لا يظل صعبا، رغم أدوات القياس الضئيلة بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية، إذ بزيارة بسيطة لمحاكم وأقسام شرطة وأقسام استقبال في مستشفيات، يمكننا رصد حالات متعدد للعنف الأسري بمختلف ضحاياه "نساء ورجال وشباب
وأطفال وكبار ومسنين".
 
* "النداء" - قسم التحقيقات
صحيح أن العنف ظاهرة كونية تمس شرائح اجتماعية مختلفة، أي أنه ليس حاضرا فقط في دائرة الزوجية والأسرة، حيث يمكن أن يتجلى في دوائر الحياة بأكملها، غير أن أضرار العنف الأسري جسديا، أو جنسيا، أو سيكولوجيا، يجب أن تجعلنا نؤمن أنه ليس بالإمكان استمرار التذرع باعتبارات العادات والتقاليد أو الدين للتملص من الالتزام القيمي والأخلاقي للحد من هذه الظاهرة التي تعتبر مدخلاً للعنف المجتمعي بمختلف تمظهراته أو العكس جراء ما ينعكس من عنف المحيط على الأسرة.
على رأس ذلك العنف المفضي إلى الموت بالطبع، ومن أنواع العنف الأسري عموماً زنا المحارم، الإهانة، الضرب، الحرمان من المصروف، التهديد، الطرد، الإكراه على المعاشرة الجنسية، الخيانة، التهديد بالأولاد، الحرمان من التعليم، بتر الأعضاء التناسلية المتمثل في ختان الإناث، ارتفاع المهر، الاستغلال، الشتائم المتكررة... الخ.
وما يفاقم المشكلة عدم وجود مراكز استماع وإرشاد قانوني متخصصة. كما يبقى الحرمان من متع الحياة في حدها الأدنى سببا للتنشئة الاجتماعية غير السوية كما يرى مهتمون، فيما الخلل الكبير في الضبط الاجتماعي من أهم العوامل السيوسيولوجية التي تجعل نشوء العنف ممكنا في أي وقت، وبرأي الناشط الحقوقي ماجد المذحجي يظل الخوف والحرج الاجتماعي من أهم عوامل إحجام المتضررين عن اللجوء إلى المؤسسات الرسمية.
الفادح جراء ذلك هو أن يقل الأمل بحياة كريمة، وبالتالي تعرض التوازن الداخلي للأفراد في المجتمع للتهديد البالغ.
والمحتم أنها قضية غاية في التعقيد، فبالتأكيد ليس العنف الأسري ضد النساء مثلاً مجرد حوادث شاذة تنبع عن قلة الأخلاق، وإنما نتيجة للمنظومة الأبوية التي تحكم المجتمع بكامل مؤسساته. والأسوأ بالطبع أن فكرة الأسرة في كثير مجتمعات من بينها اليمن، قائمة على مبدأ الإخضاع والطاعة غير المشروطة لا الشراكة.
يبدو واضحا أن الحلول الرسمية لم تقم بتطويق انفلات الغرائز السلبية كما ينبغي لتتعدد بالتالي آلام الأسر وأحزانها.
فعلى خلاف المعايير الأخلاقية للمجتمع، تفشى الاغتصاب من طرف الأهل، وهو تعبير ساطع عن الفقر المعنوي.
وإذ يتم إنكار الأقارب لها، كما يتعرض المتهمون للتعذيب من أجل الاعتراف، وتبقى الكثير من القضايا عالقة بدون حل موضوعي، تستغرب الحقوقية البارزة أمل الباشا رئيسة منتدى الشقائق لحقوق الإنسان، من استيراد الدولة للأسلحة ومختلف أدوات التعذيب، بدلا عن استيراد جهاز تحليل الدي إن أيه الذي سيحسم مثل هذه القضايا.
كان برنامج الحماية القانونية للنساء والأطفال الذي نفذه منتدى الشقائق ما بين مارس 2009 وديسمبر 2010، لضحايا العنف، عدّد 86 حالة اغتصاب، العديد منها وقعت بين الأقارب: 12 نساء، 31 أطفال، و43 طفلات.
ومن أنواع العنف التي رصدها البرنامج خلال الفترة إلى جانب الاغتصاب حالات ضرب وزواج قاصر وتحرش جنسي وخطف وحجز حرية وسلب ممتلكات وتعذيب وفقدان مأوى وانتحار... الخ.
على أن من أبشع الحالات التي تعددت في مسألة الاغتصاب هي حالات اغتصاب أب. ولذلك يأتي العنف الأسري على رأس الأزمات الاجتماعية في اليمن، بينما إعادة دمج الأطفال الأحداث بشكل موضوعي ما زال مفقتداً. ويعد العنف الأسري بوابة الفرد نحو العنف الاجتماعي، والأخطر تكريس الأسرة مفاهيم للتمييز بين الأبناء.
وبالطبع يشير تعدد الحوادث المفزعة داخل المجتمع إلى الخلل الذي اعترى القيم التربوية الأخلاقية، وتفشي قيم العقوق والتمرد على أولياء الأمور، كانعكاس طبيعي لضعف الروابط الأسرية والاجتماعية التقليدية، حسب دراسة علمية أعدتها قبل سنوات قليلة، الجمعية اليمنية للصحة النفسية، حيث لاحظت الدراسة الارتباط الوثيق بين تدني المستوى التعليمي وممارسة العنف.
وفي دراسة أخرى كان أعدها فريق من الباحثين في "المركز اليمني للدراسات الاجتماعية وبحوث العملـ"، لوحظ بشدة وجود أطفال لا تتجاوز أعمارهم 10 سنوات في حالة عداء مع القانون وغير ممتثلين للسلوك الاجتماعي.
المعروف أن اليمن إحدى 5 دول سجلت فيها حالات إعدام أطفال خلال السنوات الأخيرة. ثم إنه قبل 12 عاما تم تقدير حجم ظاهرة العنف الأسري بحوالي 20% من حجم الجرائم العامة، وفي 2008 مثلاً بلغ إجمالي الأحداث المتهمين في جرائم مختلفة 1172 حدثاً، بينهم 48 أنثى.
ومن بين الجرائم 37 جريمة قتل عمد إحداها اتهمت فيها أنثى، كما أرجع القضاة الذين قابلهم فريق الباحثين أسباب انحراف الأحداث إلى التنشئة الأسرية، ومنها جهل الأسرة الأساليبَ التربوية، والشجار اليومي داخل الأسرة، وتعدد الزوجات، وكثرة الإنجاب، والعنف الأسري، والفقر، وانتشار وسائل التكنولوجيا، مثل التلفزيون والانترنت، وما تبثه من مواد العنف.
يمثل الضرب بالأيدي أكثر أنواع العنف الأسري شيوعا، وبنسبة 67 في المائة، يليه استخدام الأدوات المنزلية بنسبة 21 في المائة، ثم استخدام الحريق وإطلاق النار بنسبة 8 في المائة، في حين لا تزيد نسبة استخدام الأدوات الحادة على 3 في المائة. وتمثل الخلافات الأسرية لأسباب اجتماعية 32 في المائة من حالات العنف الأسري، و24 في المائة بسبب خلافات حول الإنفاق، و16 في المائة نتيجة إدمان الكحول والمهدئات، و13 في المائة لأسباب تتعلق بشيوع الاضطرابات النفسية والعقلية.
ومن الأسباب، حسب أخصائيين، انتشار الدايزبام وحبوب الهلوسة بما تخلفه من سوء نية واضحة على مدمنيها ضد الأسرة والمجتمع، فهي من أهم الظواهر التي تنحدر بمدمنيها إلى حضيض الأفعال وسوء التصرف، إذ يحملون جميع سمات الحافز اللاشعوري لارتكاب ما لا يمكن تصوره، بينما ترتفع نسبة الهيجان لدى المدمن لنتصوره وقد ابتلع كل شيء في طريقه.
فالواقع أن الكيان الشخصي حين يتشوه لا يمكن لعملية التنظيم بينه وبين المجتمع أن تفلح، كما أن العلاقة بين استيهامات إثبات الذات واللجوء إلى العنف، سوف لن تكف عن التوسع في ظل اختفاء العقلنة المطلوبة.
وفي هذه الظروف يخضع المأزومون اجتماعيا لشرطهم الناقم، ما يعني عدم تمتع المجتمع بالارتقاء الإيجابي بسبب انفتاحهم على ما هو مخيف ومدنس.
ويمكن القول أيضا إن الفشل يولد الحقد والنبذ، كما يحمل في طياته جروحاً نفسية شائنة ما ينعكس على من يعانون البطالة بمحمولهم دائم التألم وأيضا بمصيرهم المحطم، إذ ليس أسوأ من الفشل في زرع البلبلة داخل الشرائح المختلفة. فالفشل المهني والاجتماعي ينعكس على الأعمال المنزلية بشكل مباشر، وبالتالي على جميع أشكال النشاط الاجتماعي.
إلا أن هذه الظاهرة ليست أخلاقية واقتصادية فحسب، وإنما ثقافية وسياسية أيضاً، حيث لا انفصال بين الحياة المنزلية وحياة الشارع، وثقافة المجتمع وتحالفات الوعي السياسي في تشكيل القوانين والأطر الحمائية.
دراسة حديثة أعدها فريق من المحامين والاجتماعيين ترأستهم الحقوقية وميض شاكر، بينت جوانب عديدة من العنف السياسي ومساهمته في إنتاج العنف ضد النساء والأطفال. ولقد توصل البحث في هذه الدراسة إلى مقترح أن "الحماية تمكين"، كإضافة مناسبة لمنهجيات التحليل والعمل في مجال المناصرة ضد ظاهرة العنف. ويقصد بالتمكين، تحكم الفرد بالموارد والاختيارات والاستقلالية للوصول للتنمية، ففي حال وصلوا إلى وضع التمكين هذا، يصبحون أقل تعرضا للعنف الذي يتخذ شكل الظاهرة لاتساعه وتكراره، كما هو قائم حاليا. إذ ليست مهمة القوانين حماية الناس فقط، بل إن عليها تمكين الأفراد من قدرتهم الذاتية على التعبير عن أنفسهم كمواطنين، وعلى حماية أنفسهم من العنف بكل صوره.
الدراسة التي تمت عبر منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان واتحاد نساء اليمن، ذكرت بعدم وجود نصوص تؤكد على حماية الطفل، وخلصت إلى أهمية التحالف السياسي من أجل المناصرة، كما لم تنسَ أهمية بناء جسر علاقة جيدة بين المدرسة وبين الأسرة.
خلافاً لذلك أوضحت رؤيا المعنفات أن منتسبي الشرطة في الأقسام مرتشون أو تربطهم علاقة جيدة (شخصية أو مهنية أو حزبية أو قبلية) بالمعنف. وبالتالي فإنهن لن يحصلن على الإنصاف والعدالة، بل سيخسرن مبالغ ووقتا في المتابعة دون جدوى.
وبتأكيد الدراسة فإن الكثير من المعنفات يخفن من نظرة المجتمع التي تدين وتجرم لجوء النساء إلى المؤسسات القانونية والمحاكم، إذ يرى المجتمع أن هذا التصرف غير سوي، ويمثل خروجا عن سلطة وطاعة الأهل والأقارب والشخصيات المعروفة.
وكون أغلب الضحايا والمعنفات من فئات المجتمع الفقيرة، فإن التكلفة المالية التي تستوجب دفع الرسوم القضائية والمبالغ الخاصة بالمتابعة والإجراءات والعون القانوني، تشكل عائقا رئيسيا –برأي الدراسة- أمام لجوئهن للحل القانوني، وهناك 250 امرأة أخرى عزفن عن اللجوء للقانون لأسباب مالية.
وقال الباحثون في دراستهم إن 5 فتيات شكين تعرضهن لتحرش جنسي خلال العام 2008 من قبل إخوتهن وآبائهن. إلا أنهن يرفضن الحلول القانونية، ويفضلن تدخل مؤسسات مدنية واجتماعية لإبعادهن عن عائلاتهن ووضع حد للتحرش بهن.
الدراسة استنكرت إجراء الصلح دونما الوصول إلى جهة الاختصاص، خاصة عندما يتعلق الأمر بجرائم الاغتصاب، إضافة إلى تقاعس الجهات المختصة في إثبات الوقائع: كعرض الضحية على الطبيب الشرعي لإثبات حالة الاغتصاب فور الإبلاغ بحصول الواقعة، وهو ما يؤدي إلى اختفاء آثار الجريمة.
ومن الممارسات التمييزية ضد النساء خاصة المهمشات منهن: تحول المشتكيات بجرائم الاغتصاب إلى متهمات بجريمة الزنا لمجرد أنهن عجزن عن إثبات إدانة المجرم.
كما استنكرت الدراسة ذلك الغياب في توفر المعامل الجنائية وفحوص الحمض النووي (DNA) الذي يمثل أداة ضرورية لإثبات وقائع الاغتصاب. ولا توجد طبيبات شرعيات لغرض الفحص على النساء ضحايا الاعتداءات الجسدية والجنسية. ولم يلحظ النظام حاجة إلى تشكيل شرطة نسائية إلا في العام 2001، لضرورات استدعتها آليات مكافحة الإرهاب.
وكان المحامي عبدالسلام راشد، محامي منتدى الشقائق، قال للباحثين: "إن جرائم الاغتصاب أو إثبات النسب هي من الجرائم التي يصعب إثباتها بالأدلة التقليدية كالشهادة والإقرار من الجاني. لذا، فإن الأمر يستوجب توافر المختبرات المتخصصة لفحص الحمض النووي الذي يحدد هوية الجاني، ويعمل به كدليل قاطع في إثبات الجريمة. ولأنه لا تتوافر حالياً في اليمن هذه التقنية، فإن كثيراً من الجناة يفلتون من العقابـ".
ومن بين ما رصدته الدراسة أنه في شبوة حبس وقيد أحد الآباء ابنه بالسلاسل لأن الأخير رغب في مواصلة تعليمه وترك العمل الشاق الذي ينهكه، وأن هناك 5 طفلات هربن من زواج مبكر.
واعتبرت الدراسة أن عدم توفير الحماية للنساء والأطفال في صراع مع العنف هو مشكلة سياسية. إذ لم يتم الاعتراف بمواطنتهم التي تضمن لهم حقوقاً متساوية في جميع المجالات، لاسيما القانونية والقضائية. وازدادت هذه المشكلة حدة لأسباب تتعلق بالتراجع الحاد في عملية التنمية، وفي الوضع الحقوقي والحرياتي، خاصة التشريعات اليمنية (التي تتناولها هذه الدراسة، ابتداءً من الدستور، مروراً بقانون الأحوال الشخصية والعقوبات، ووصولاً إلى قوانين أخرى مثل قانون محو الأمية وقانون الطفل). إضافة إلى تواضع تدخلات المجتمع المدني والدولي في الحد من هذا التراجع. كل ذلك شكّل أسباباً كافية لكشف غطاء الحماية عن هذه الفئة.
الدراسة أدانت أيضا النقابات الصحية سواء الطبية أو الفنية، فهي من النقابات النشطة، إلا أنها لا تعطي أهمية لموضوع العنف وضحاياه، خصوصا العنف الأسري أو المنزلي، الواقع على المرأة والطفل. فلا تقوم هذه النقابات بالرصد أو التسجيل، أو بتقديم الخدمات الإنسانية لهذه الفئة.
وبحسب الدراسة، تعيد التقارير أسباب الوضع التنموي والإنساني المتدني لليمن واليمنيين نساءً ورجالاً وأطفالاً، إلى أسباب سياسية كغياب الشفافية والديمقراطية القائمة على المشاركة الفاعلة. وأسباب اجتماعية وثقافية، كعدم تمكين النساء والأطفال من حقوقهم، وأسباب اقتصادية.
هذا السبب في نظر الباحثين هو عدم حماية الدولة للنساء والأطفال من العنف. لقد ظل العمل في مجال تنمية المرأة ومجال الحقوق بمثابة عملين منفصلين إلى سنوات قريبة. ففي منتصف السبعينيات تطور مفهوم التنمية من التنمية الاقتصادية المتمركزة على النمو الاقتصادي إلى التنمية البشرية المتمركزة حول الإنسان أو الفرد.
وأفاد الباحثون بأن 197 امرأة من اللاتي وثّقن تجاربهن مع العنف في مراكز الاستماع، اخترن آلية الحماية المجتمعية بديلا عن آلية الحماية القانونية للدولة. وعند سؤالهن، أثناء جلسات الاستماع، عن السبب في اختيار هذه الآلية، كان جوابهن في كثير من الأوقات هو ترديد المثل اليمني "صلح أعوج ولا شريعة سابرة". لماذا عرّفت النساء الصلح المجتمعي بالأعوج؟ ذلك لأن عملية الصلح المجتمعي -في رأيهن- تقف دائماً في صف الرجال وتهضم النساء حقوقهن. فالمتزوجات في الريف اليمني من أزواج مهاجرين في الداخل أو الخارج، يُهجرن لسنوات طويلة دون نفقة، وعند مطالبتهن بالخلع، يُحكم لهن، مجتمعياً، بالخلع دون التعويض عن نفقة سنوات الهجر، وهو التعويض الذي بالإمكان الحصول عليه لو تمت المطالبة عبر محكمة. وعند تعرض النساء للضرب، لا يحكم الصلح المجتمعي بالأرش المنصوص عليه في قانون العقوبات، لكنهن يحصلن على التزام أخلاقي بعدم الاعتداء. وفي قضايا الإرث يحصلن على مبايعة تحصل فيها النساء على حصة مالية أقل بكثير من نصيبها المنصوص عليه في الشريعة الإسلامية. ورغم ذلك يفضلن الصلح الأعوج على آليات الحماية القضائية للدولة، ذلك أن هذه الأخيرة -برأيهن- لا تنصف النساء، وأن موظفيها فاسدون، وإجراءاتها طويلة ومكلّفة.
إذن -والتعبير للباحثين في دراستهم القيمة هذه- تقتل النساء بسبب تعرضهن للاعتداء الجنسي، ويقتلن للاستحواذ على إرثهن، ويقتلن في ليلة زواجهن بسبب الشك بعذريتهن. وتضرب النساء بسبب مطالبتهن بالنفقة، أو بسبب منعهن الزوج من إنفاق ميزانية المنزل على القات أو الكحول، أو لأنهن اعترضن على الإنجاب، أو لأنهم قمن بحماية أطفالهن من ضرب الزوج، أو لأنهن رغبن بسكن منفصل ولو من غرفة واحدة، أو لأنهن اعترضن على زواج الزوج بأخرى. وهكذا، تقتل النساء لاتساع فجوة الحماية القانونية التي تمكنهن من معاقبة المعتدين عليهن جنسياً، أو الذين يحرمونهن من الميراث، أو الذين يتهمونهن بشرفهن. وتضرب النساء لأنهن -فقط- طالبن بحقوقهن المكفولة في الدستور اليمني وبعض قوانينه.
وترى الدراسة أن الطلاق بين الزوجين يشكل أحد أهم المعوقات على مستوى الإجراءات القانونية، إذ تعتبر الأخيرة أن الطفل ملك أبيه، وإن كان القانون قد أعطى الأم الحق في الحضانة، وهو حق أصيل للأنثى. فقبل 3 سنوات تزوجت أميرة وهي في عمر ال23، وأنجبت طفلة. بعد ذلك طلقت بسبب إصرارها على ممارسة حقها في العمل. فقررت أميرة السفر إلى خارج اليمن برفقة ابنتها، ولكنها عندما تقدمت بطلب إضافة ابنتها إلى جواز سفرها، رفضت مصلحة الجوازات السماح لها بذلك لعدم توفر موافقة الأب الذي كان في أول الأمر قد حرر موافقة مختومة، ثم نفى ذلك، واتهم الأم بالتزوير. ولا زالت القضية منظورة في نيابة الجوازات.
الدراسة أوردت في انتقادها لنص المادة 6 من قانون الأحوال الشخصية، على أن الزواج في هذه المادة لا يهدف إلى تأسيس أسرة، وإنما يؤسس لتحصين الفروج كهدف قائم بذاته، ما يستفز فئات كبيرة من المجتمع والأفراد اليمنيين. كما أنه لم ينتج سوى العنف العائلي.
وكمثال تزوجت مديحة، وهي فتاة في ال20 من عمرها، كانت تعمل في محل اتصالات، برجل وعدها باستئجار منزل بعد الزفاف. لذا فقد زفت إلى أحد الفنادق. بعد ذلك اكتشفت مديحة أنه متزوج بأخرى ولديه أطفال. وقالت: "كان يأخذني من بيت والدي إلى الفندق لقضاء شهوته. ومن الليلة الأولى كان يضربني أثناء المعاشرة، ويقول إنه يفعل ذلك مع زوجته الأولى. وحاول أكثر من مرة اغتصابي من الخلف. وعند رفضي كان يضربني ويركلني ويقول إنه تزوجني من أجل ذلك، ومن أجل ألا يرتكب الحرام مع أجنبيات. والآن تركني وقال إنني طالق. ومنذ سنة وهو لا يتصل ولا أعرف له مكاناً. وطلبي هو فسخ عقد زواجي لأعود حرة طليقة".
وفي تتبعها لقانون الأحوال الشخصية لاحظت الدراسة تغييب المرأة من مجلس عقد الزواج، من ركن القبول، ومن تسجيل وثيقة الزواج، ومن الولاية سواء كانت بكرا أم ثيبا. وبوصفها "معقوداً بها" لا عاقداً أو طرفاً في العقد، فالرجل عاقد والمرأة عاقد، إلا أن هذا التشييء –بتعبير الباحثين- إنما يقرب عقد الزواج إلى عقود المبايعة أو العوض، خاصة مع تصدر "الوكالة" في المادة 7، والوكالة غالبا ما تستخدم في عقود البيع أو العقود التجارية. لذا، لا يصح أن تقاس عملية التعاقد القائمة على العلاقات الإنسانية مثال الزواج أو العمل، بإجراءات المبايعات التجارية.
خلاصة القول: ما زال ينقصنا الكثير كأفراد وكمجتمع من أجل حياة أكثر عدلا وسعادة، وأقل قهرا وعنفا، حياة بلا تمييز، وبسوية اجتماعية حقيقية وفاعلة.