أهو ملاك أم إبليس!

أهو ملاك أم إبليس!

منصور هائل
كل شيء في هذه البلاد يتمحور ويتركز حول شخص الرئيس، ويسمح للرئيس بأن يتمركز في ذاته وحولها، فهو يتغذى ويتنفس من محيطه ومجاله الحيوي، ويتحصن بالقدر الذي يجعله لا يقبل بأن يضارعه أو يضاهيه أي شيء أو أي أحد بمشاعر الامتلاء والاكتفاء والعظام النرجسي المتفاقم إلى الدرجة التي تمنعه من التسامح مع أية مناوشة أو خدش لمقامه المقدس، وتسوغ له التعالي على كافة أشكال المساءلة، والاستخفاف بأي نقد أو ملامسة دنيوية اعتراضية لأدائه، وإن كانت هامسة أو ناعمة وباهتة إلى أقصى الحدود.
ذلك هو الشرط الوجودي والسلطاني للرئيس في هذه البلاد، فهو لا يختلف عن أقرانه من الرؤساء العرب، وفي تلك البلدان التي يغيب فيها دور المؤسسات، وينحسر عن مجالها العام رداء السياسة، وتنكشف على اختلاط مرعب بين عناصر طفولة الدولة وبدائيتها وبدويتها، وتفلت العصابة، وعربدة وحوش الغابة.
وفي خضم هذه الهمروجة يسود فقدان الاتجاه والتوازن والعقل أيضاً، ويصير الحديث عن بوصلة السياسة ضرباً من البهتان وانحطاطاً إلى ما دون المهزلة المبتذلة، ويضحك الجميع على الجميع من غير أن يفهم (الجميع) أن النكتة على حساب الجميع! وفي راهن هذه الأيام، بل في مقتبل هذا العام 2011، احتد واشتد واحتدم مستوى التمحور والتركيز على شخص الرئيس علي عبدالله صالح الذي وجد في هذه الموجة ما يستجيب لطبعه وغرامه في هذه الدنيا، وانساب مع تيار هواه ومزاجه، وأكثر من قفزاته بين المحافظات و(محاضراته)، وتحفز أكثر من أي وقت سابق، من الأجواء والمناخات والبيانات والتصريحات المعارضة والصحافية التي بدت، ويا للغرابة والعجب، مستثارة من تصريحات الحزب الحاكم المتعلقة بالتعديلات الدستورية التي تنصب، في جوهرها، حول تأبيد السلطة للرئيس، مغفلة بذلك أنها قد فرشت بخطابها السائد الطريق لهذا النوع من السلطة والسلطان، وضبطت الأمور على قياس (الرئيس) ومقاسه، وعلى النحو الذي يستجيب لإيقاع نبضه وأنفاسه.
وللمرة الألف تنكشف (المعارضة) في هذه البلاد وتتجه في قمة عرائها الإدراكي والمعرفي، وفي أبهى صور قصورها الذاتي المزمن والكامن في عدم إحساسها بواقع أن اليمن أحوج ما تكون إلى بناء المجال العام، مجال السياسة، الدولة، وبالأحرى دولة المؤسسات بما هي حل بديل ومخرج مختبر من نفق طغيان الشخصنة والشخص، ومن محشرة التذابح والتكالب على منصب الرئيس والرئاسة، على نحو كان، وما زال، يغوي كل نفس أمارة بالنهب، بارتكاب ذلك الشيء الذي اسمه "انقلابـ" يتمخض عنه استبدال الرئيس القائم برئيس منتقم.
واستعرت حمى تلخيص واختزال مصائب وكوارث البلاد، في الآونة الأخيرة، بشخص الرئيس علي عبدالله صالح، مع تأكيد الحزب الحاكم أنه سوف يمرر التعديلات الدستورية، وعاودت المعارضة التأكيد بأن ذلك يعني تأبيد بقاء الحاكم وتأثيث الطريق لتوريث نجله عبر تصفير العداد، أو خلعه بالمرة، كما حدث مؤخراً.
ترى أين الاكتشاف في هذا الكلام؟
وكيف غاب عن بال هؤلاء الساسة أن أصل البلاء في بلادنا، وفي بلاد العرب الأقحام، كان ولا زال يكمن في اعتقادهم أن مقبض الأمم والبلدان يكمن في الولاية والرئاسة، وما كان له أن يتفشى ويتحول إلى طاعون أو جائحة طاحنة إلا على خلفية من غياب دولة المؤسسات والقانون والمواطن.
ومرة أخرى لن ينفع اليمن استمرار الفرقاء في ماراثون سباق الفئران هذا، واستنزاف القوى والطاقات في تركيز الخطاب على شخص واحد، والهرولة واللهاث بعد الرئيس، وملاحقة سكناته وخلجاته، خطواته و"مقولاته" وهفواته وشطحاته وتقلباته وتطيراته، تلميحاته وغمزاته، وفك شفراته حين يتحدث عن غياهب العهد الشمولي ومخاطر لسعات "الشمس"، ويتقرر كداهية أو هاوية ومركز للجاذبية وبداية للتاريخ ونهايته وأس البلاء وبؤرة المصيبة والكارثة أو منقذ ودواء، ومقدس وهلمجرا.
الحق أن اليمن قد أنهكت وأهلكت من التآكل في حلق هذه الدوامة، وهي أحوج ما تكون للخروج من براثن الوعي الجمعي العام الذي يربط كرسي الرئاسة بالقداسة، ويرهن قدرات وثروات وطاقات وخيارات البلاد برمتها في محبس هذا النوع من القراءة الكسيحة التي تعول على سلطة الأب والرئيس الخارق والمفارق للزمان والمكان و"الكاريزما" الكاريكاتورية في زمن صارت فيه الكاريزما هي كاريزما المواطن، القانون، المساواة، الإنسان.