ب5 رصاصات، وتحت غطاء المادة 59 عقوبات

ب5 رصاصات، وتحت غطاء المادة 59 عقوبات

أيديولوجية مشوهة تقتلُ "زياد"!
* يحيى هائل سلام
في عداوة غير مبررة مع الحياة، أفرغ (ع. د. البعداني)، المنهمك من أمد بالرحلات الدعوية إلى الله، ذخيرة مسدسه الروسي، في أنحاء مختلفة من جسد ابنه؛ زياد.
كان زياد، في ثالث أيام العيد، يفترش حيزاً جانبياً، على الطريق العام، في المدخل الشمالي لمدينة القاعدة، وهو موقع متلائم، مع ما شرع فيه من امتهان للجزارة، طلباً للرزق الحلال، ما رأى فيه أبوه جلباً للعار، يستوجب القتل.
سال دم زياد، اختلط بدم الذبيحة، لكنهما دمان غير متكافئين، فللذبيحة في هذا المقام ثمنها المألوف، وغير المنقوص، أما زياد، فقيمةٌ منقوصة، لا يقاد به قاتله - أبوه، تصديقاً لمشهور الحديث: "لا يقاد الوالد بالولد"، وإعمالاً لقوة العبارة: "لا يقتص من الأصل بفرعه وإنما يحكم بالدية أو الأرش على حسب الأحوالـ"، كما هو نص المادة 59 من قانون العقوبات اليمني!
الناشط الحقوقي والعضو في البرلمان، شوقي القاضي، ليس فقط لا يمانع، بل هو مع المطالبة بإعادة النظر في ذلك، والكثير غيره من النصوص القانونية، قال: "هناك الكثير من النصوص القانونية ينبغي إعادة النظر فيها، ومنها، النص المتعلق بعدم قود الوالد بالولد".
وفي تفصيل ذلك، يقول القاضي: "هناك الكثير من الأمور تبدلت، وثمة حوادث غير طبيعية، فهنا والد يقتل ولده، لا لشيء سوى أنه يبيع اللحوم، ما المشكلة في أن يبيع اللحم؟!".
في حقيقة الأمر، ما من مشكلة في الجِزارة، لكن، ووفقاً لما يراه الدكتور حمود العودي، أستاذ علم الاجتماع، في دراسة له، تناولت اليمن كنموذج للتمييز الاجتماعي بين أشكاله الثقافية وأبعاده السياسية، فإن "المشكلة هي أن ينظر إلى القائمين بمثل هذه الأعمال والمهن من قبل المجتمع باعتبارهم أناساً وفئات محتقرة في المجتمع".
المثير في الأمر، أن تلك النظرة الاجتماعية، تتجاوز البعد الاجتماعي، إلى البعد البيولوجي، وبالتالي، "الجزار جزار، لا بحكم مهنته فقط، بل وبحكم مولده ونسبه أيضاً".
أما عن الأسباب الحقيقية الثاوية وراء ذلك، فيرى الدكتور العودي أنها في الأساس "نزعة أيديولوجية مشوهة ومتخلفة للبحث عن السلطة من أجل الثروة بالنسبة للمحرومين منهما، أو الدفاع عنهما بالنسبة للقائمين عليهما".
كذلك فعل أفلاطون، فتعين ألا يكون أي اختلاط بين الطبقات، وحتى يُحتفظ بجنس الحراس نقياً، لضمان شعور الطبقة المسيطرة بغلبة الأجناس، لم يتردد صاحب "المدينة الفاضلة" في الدفاع عن وأد الأطفال، وفي المحصلة، لن يمكن العثور على فن حكم الناس، في مكان آخر، غير احتكار الحكم، والتوريث السياسي!
بإيعاز من النزعة الأيديولوجية المشوهة والمتخلفة تلك، وتحت غطاء المادة 59، ذات المنشأ الديني، قُتل "زياد".. صارت زوجته أرملة.. أولاده بلا والد.. بلا قلب أب.
هنا عودة إلى البرلماني شوقي القاضي، الذي يواصل الكلام: "اليوم بعض الآباء يدفعون أبناءهم إلى الجرائم، كالتسول، وربما الدعارة، لذلك، أنا لست لا أمانع، بل أنا مع المطالبة بإعادة النظر في ذلك النص القانوني، والكثير غيره من النصوص، على أساس أن حق الحياة مقدم على حق الأبوة، وكذلك، على أساس الالتزام المتبادل في حقوق الأبوة والبنوة".
لكن، وفي ما يبدو توقعاً لمصير مثل تلك المطالبة، يقول القاضي: "للأسف الشديد، فالكثير من الزملاء في البرلمان، وفي مقدمتهم برلمانيون عن حزب الإصلاح، يتمترسون ضد الكثير من التعديلات التي قد تبدو منطقية وضرورية، والسبب في ذلك يعود إلى فقدان الثقة بالنظام، وكذلك، اعتقاد أن كل تعديل إنما يأتي في إطار الإملاءات الخارجية".
وإلى أن يستعيد المشرع اليمني ثقته بالنظام، إلى أن يتحرر من عقدة الخارجي، يظل الأبناء تحت طائلة القتل الإباحي، لا لشيء، سوى أنهم أبناء لآباء مخولين بالقتل، الواحد منهم سيقتل، وربما يستكثر على قتيله كفناً، ووضعية ملائمة في القبر، فيدسه بملابس نومه الداخلية في عمق، يقدر بمتر تحت التراب، هو أقرب إلى المخبأ، منه إلى القبر، وفي ذلك، لن يعدم القاتل متعاونين، قد يقتصر تعاونهم على اقتراح مكان الحفر، وربما يتجاوزه، إلى حمل الجثة، والحفر، ثم إلقاء الجثة في العمق الترابي، فإهالة التراب.
في ظل مبدأ التخويل بالقتل، فليس ذلك مجرد افتراض، إذْ في 2/6/2009، كان اتصال هاتفي، من امرأة مجهولة، كشف عن جثة (مكبوسة) في التراب، على بعد متر، من إحدى أشجار البن، بقرية بيت عقيل -عزلة رعاش -بمديرية ذي السفال.
كانت تلك جثة (نجيب ن. أ. ن)، 23 عاما، وكانت على حالتها تلك، منذ أكثر من 7 أشهر، حين دُسّتْ في التراب، بقميص نوم أحمر قصير (جرم)، وسروال داخلي، بما فيها من ثقوب ثلاثة، خلفتها رصاصات من مسدس فرنسي رقم 831725.
كان أبوه هو من قتله، وساعد القاتل في إخفاء الجثة، كلٌّ من ابنه الأكبر، وشقيقه، عم القتيل، وتحت غطاء المادة 59، وعلى الرغم من تلك الظروف التي صاحبت الواقعة، كان الحكم بسجن القاتل عاماً، مع وقف التنفيذ، هو ما انتهت إليه القضية.
بل إن الغطاء القانوني المقدس، وذلك هو العجيب، امتد بعطفه وحنانه، ليشمل واقعة إخفاء الجثة، فلم ينل شقيق الأب، وابنه الأكبر من العقاب سوى مبلغ من المال: 10 آلاف ريال، يدفعها كل منهما إلى الخزينة العامة!
لم يكن لذلك صلة بالقانون، فالعقوبة المتعلقة بواقعة تضليل القضاء، كمن يخفي جثة، ليس فيها خيار الحكم بالغرامة، وإنما هي مقصورة على الحبس، ومع ذلك، النيابة العامة لم تكلف نفسها استئناف الحكم!
والأرجح أن ذلك، ما هو إلا امتدادات المادة 59، على المستوى النفسي للقضاء اليمني!