الحاكم حين يأكل نفسه

الحاكم حين يأكل نفسه

* منصور هائل
الواضح أن الحزب الحاكم في هذا البلد لا يشبه أي حزب حاكم في أي بلد، ولعله لا يشبه حتى نفسه!
فهو يمعن في إهانة ناخبيه وشعبه حين يتسول المساعدات والهبات من أجل تغطية عجز الموازنة العامة، وفي عين الوقت يبرم صفقة لشراء أسلحة بمليار دولار، ويحدث ذلك بينما تسبح عاصمة البلاد ومعها العاصمة الاقتصادية عدن والمدينة الثالثة الأكبر بل والأولى على المستوى الاستثماري المكلا، في بحر من الظلام بسبب من انقطاعات التيار الكهربائي الناجمة عن انفجارات وحرائق هائلة أصابت محطات الكهرباء في كل من مأرب والمكلا وعدن، علاوة على الضالع، وغير ذلك من المناطق والمديريات الأخرى التي تعرضت فيها المحولات والكابلات الكهربائية لتعديات بالأعيرة النارية، وضُربت بالقذائف، ما أسفر عن إظلام شبه تام، وشلل شبه عام في معظم المحافظات الجنوبية، وفي العديد من المديريات والمناطق الشمالية.
ويمعن هذا الحزب الحاكم في إهانة الناخبين والشعب الصابر المسكين لمجرد أنه يملك الجرأة على الإعلان بأنه عقد العزم على المضي منفرداً في الانتخابات القادمة بأبريل 2011، فهو واحد أحد ولا يشبهه أحد حين يخوض غمار التنافس مع نفسه دونما اكتراث لما يعنيه ذلك من إخراج تام للبلاد من نصاب السياسة والعقلانية، وتدويخها في دوامات اللامعقول، على خلفية إخراج أكثر من محافظة كاملة من دائرة الاستقرار، وزجها في أتون "أزمة الوجود" ثم في أتون "أزمة البقاء" كما هو الحال في محافظة صعدة –مثلاً- التي لم تخرج من براثن الخراب والدمار والاحتراب، وهي المحافظة الأكبر والأكثر سكاناً في المثلث الزيدي!
ولا يلتفت هذا الحاكم ولا يكترث لما يعنيه الاحتراب في مأرب، أو بين قبائل بلحارث وعبيدة في الحدود بين مأرب وشبوة، أو التخوم المتداخلة والمتقاطعة للنفط والغاز، ولا يعنيه أمر محافظة أبين التي ترزح كما أرجاء كثيرة في برزخ "الهدنة"، وتقع أكبر مديرياتها –جعار- في قبضة الجماعات المسلحة.
ولا يلتفت هذا الحاكم وحيد القرن والخلية لتمخضات أفعاله ومفاعيله المترتبة على حربه الضارية التي شنها على محافظة الضالع قبل أن يجف حبر التوقيع على "هدنة" مع الحوثيين في صعدة، ولا لما يعنيه أمر عزل هذه المحافظة عن حركة الاتصالات والمواصلات، واعتقال وملاحقة العشرات من أهاليها، ورشق منازل السكان في عاصمتها بوجبات يومية وليلية من قذائف البنادق والهاون والصواريخ والدبابات وحتى الطيران، وجرجرتها بتلابيب العسكرة والعنف والدم والنار والجمر والرماد: الضالع الدائخة والذبيحة والصامدة في مواجهة أشنع عمليات التنكيل والتقتيل والتمييز التي تصفع الأذهان بكوابيس أنظمة التمييز العنصري، وجرائم الحرب ضد الإنسانية.
والأسوأ بل الأنكى من هذا وذاك أن هذا الحزب الحاكم يمعن، أيضاً، في استفزاز الناس وتسميك مشاعر الحقد والبغضاء والثأر في دخائلهم، واستثارة مشاعرهم البدائية وغرائزهم العدوانية العارية عبر تذكيرهم بأنه المنتصر عليهم والجاثم على صدورهم بقوة المدفع والدبابة والإكراه والغلبة، إلى جانب قوة النهب والسلب والاغتنام، وتلكم هي بعض الإشارات البسيطة التي انطوى عليها اجتماع اللجنة العامة للحزب الحاكم بل الإجماع في مستهله، حيث: "حيَّت اللجنة العامة يوم السابع من يوليو المجيد الذي رسخ فيه شعبنا اليمني ومؤسساته الدستورية قواعد الوحدة المباركة وانتصر في مواجهة مؤامرة الردة والانفصال التي أشعلتها العناصر المرتدة العميلة في صيف عام 1994"!
إنه التمجيد الوقح والفج لـ"الوحدة بالدم"، وهو تمجيد لا يعبد سوى الطريق إلى الانفصال المحتم، بل ويفضي إلى متوالية من الانفصالات التي أصبحنا نحترق بسعير شراراتها الأولى في كل يوم وعلى مدار كل ساعة.
إنه الحزب الحاكم الذي لا يشبهه أحد ولا يشبه حتى نفسه، ليس لأنه يقول ما لا يفعل، ولا لأنه لا يقصد ما يقول، أو لأنه يجمع بين النقائض والمفارقات، بل في مستوى ما آل إليه من حال يدعو إلى الرثاء والانذهال حين يجاهر بأنه سيمضي نحو الانتخابات بمفرده، وسيخوضها معركة حامية الوطيس مع نفسه بعد أن أعدم كافة المنافسين وقوض كافة شروط المنافسة والسياسة، وعاث فساداً وتكرس سيداً للخراب دون منازع في بلد تآكلت بناه التحتية، وتحلل إلى عناصره الأولية، وتصحر من كل شيء باستثناء هذا "الحاكم" الذي سيمضي نحو التهام نفسه بكل شره ونهم، وتلك هي المحصلة المرة و"الطبيعة" لمن يصل إلى كرسي الحكم بالجماجم وعلى الجثث وعبر أكل الخصوم، وينتهي مطافه إلى أكل نفسه.