فصول مرورية على هامش "الحملة"

فصول مرورية على هامش "الحملة"

* أبو بكر عبدالله
على كل الاعتبارات التي تكتنف الحملات المرورية بأهدافها الإنسانية والأمنية والاجتماعية، إلا أن ثمة قضايا تثير الاستنكار لكونها تمارس في العلن كأن تتحول إلى موسم للجباية تذوب فيه الأهداف النبيلة للحملات في زحمة انفلات يغرق فيه الجميع.
لم أكترث يوما في البحث عن خبايا هذه الحملات، إذ إن لديّ قناعة مسبقة بأن لها أهدافها في الحد من المخالفات المرورية وتعزيز الحالة الأمنية عن طريق وضع جميع المركبات تحت طائلة القانون وإزالة مظاهر المخالفات في المركبات التي لا تحمل لوحات أو عدم حصول البعض على رخص قيادة. لكن اقترابي لمرة واحدة من "مقبرة مرورية" في باب اليمن بصنعاء، كان كفيلا بكشف خبايا حملات حولها البعض إلى موجة ابتزاز معلن.
كم هالني مشاهدة أحد رجال المرور وهو يحشر سائقاً بين خيارين: إما الدخول إلى "مقبرة الشهداء" التي حولتها الإدارة العامة للمرور إلى كراج لحجز السيارات المخالفة "لدفع غرامة مالية بخمسة آلاف ومائة ريالـ"، أو القبول بالتسوية المعروفة، لكن الموقف بدا كارثيا بالنسبة لي عندما هجم أحدهم على سيارتي طالبا "الأوراق" بطريقة تفتقر إلى الكياسة، ليأمر بعد تفحصه الأوراق ورخصة القيادة بعنجهية واثقة باقتيادي والسيارة إلى "المقبرة".
الأمر الذي أصدره الرجل بالتوجه إلى "المقبرة المرورية" كان واضحا "فهناك ستدفع غرامة قدرها خمسة آلاف ومائة ريال لعدم تجديد الكرت"، من دون أن يخفي محاولته إقناعي بمعادلة التسوية الشخصية المعروفة كخيار أفضل يجنبني الوقوع في دهاليز "المقبرة" تلك، لكني اخترت الخيار الأصعب سعيا لخوض تجربة ندمت عليها تاليا.
ثمة قاعدة لدى البعض وليس الكل طبعا، ف"السائق هو الخاسر الأكبر في كل الحالات"، فإن كان استوفى جميع أوراقه، فلا شك سيكون ثمة ثغرة لاقتياده، خصوصا إن وجد فيه صيدا ثمينا، إذ ليس الجميع يقادون إلى "المقبرة المرورية"، فيكفي مثلا أن تكون مرتديا بدلة وتقود سيارة لا توحي بأنك من أصحاب النفوذ.. وقد تصاب بدوار عندما تشاهد في نفس اللحظة سيارة فارهة ومعتمة بالعواكس الزجاجية، أو سيارة دون لوحة معدنية تمر من أمامك دون أن يكترث لها رجل المرور الذي جند نفسه للبحث في مخالفاتك الجديدة والقديمة.
التأخير في تجديد الكرت كان ذريعة مناسبة لاقتيادي مع السيارة إلى المقبرة المرورية لأواجه بعدها حالة ثأرية لدى زملاء رجل المرور ذاك مع المدير الذي كان يدير مهامه من على كرسي موضوع في بوابة المقبرة، فالرجل اكتفى بتوقيع أمر عقوبة غرامة مالية قدرها خمسة آلاف ريال، ثم خفضها فجأة إلى ألفي ريال، ما لم "سير جدد ورجعت غدوة".
كثيرون بدوا مستائين مما يدور في تلك المقبرة، فأحدهم حُجزت سياراته أياماً بعدما تورط ونسي كرت سيارته في منزله.. كيف لمخالفة بهذا الحجم أن تقود رجلاً ريفياً لديه مسؤولياته وانشغالاته الخاصة، لاحتجاز سيارته في "المقبرة المرورية" أياما، ثم يخرج بعدما تكبد عناء استلاف غرامة يقدرها مسؤول متعهد فقط باستلام السيارات وتوقيع عقوبة الغرامات، حتى إنه في أحيان كثيرة لا يعرف اسم رجل المرور الذي اقتاد السيارة إلى المقبرة، ولا مكان خدمته، كما لا يكلف نفسه السؤال عن كيفية اقتياد السيارة إلى تلك المقبرة.
شخص آخر وجد نفسه في حفرة كبيرة لأنه لم يجدد كرت سيارته فقط لمرة واحدة، ومع ذلك تكبد مشقات قل أن تتعرض لها عشرات السيارات التي تجوب شوارع العاصمة نهارا وليلا من دون بيان جمركي أو حتى لوحة معدنية.
مع إقرارنا بخطأ أن يتكاسل صاحب المركبة عن تجديد أوراقه دوريا وفقا للقوانين، إلا أن من الإنصاف القول إن كثيراً من السائقين الملتزمين على الأقل يقعون ضحية الابتزاز، بل إن بعضهم يواجه نزعة ثأرية من رجل المرور عندما لا يحصل على شيء، ويسعى بالمقابل إلى تكبيد السائق أكبر غرامة مالية ليكون ذلك درسا له ولكثيرين غيره.
لعل المفاجأة الكبرى في هذه الفصل أن السند الذي يوقع بالغرامة غالبا ليس وثيقة صادرة عن الإدارة العامة للمرور، بل عن المجلس المحلي للمديرية.
كيف يمكن إقناعنا أن هذه الإدارة قادرة على تنظيم حملات مرورية لتحقيق أهداف معينة، في حين أنها أخفقت تماما في وضع إجراءات للعقوبات والغرامات تضمن حق المواطن قبل أن يتم التحايل عليها عبر وثائق المجلس المحلي؟
لم أجد تفسيراً منطقيا لهذه الظاهرة، لكن أحدهم فسر لي حرص ذلك الرجل الذي يرتدي بزة رجل المرور على اقتياد السيارات إلى المقبرة بهذه الذرائع، بأن المجلس المحلي يمنح نسبة من قيمة التحصيل، ولذلك فهم لا يتورعون عن تغريم كل من يقع بأيديهم، خصوصا إن رفض هذا المسكين معادلة التسوية المعروفة. مع احترامنا الشديد لبعض رجال المرور الشرفاء الذين يؤدون مهامهم على أفضل ما يجب، ويستحقون الشكر والتقدير، إلا أن بعض الحالات تستغل هذه الحملات للارتزاق، وتسيء كثيرا لرجال المرور.
ممارسة يومية
لا يمكن التوقف عند هذه النماذج كحالات فردية، فما يدور في واقع الأمر ممارسة يومية سيئة السمعة تمارس جهارا نهارا، فمن هذا الذي سيغامر ويقبل باقتياد سيارته إلى مقبرة المرور، فالدخول ليس كالخروج على كل حال، وإن أدخلت سيارتك إلى المقبرة فعليك أن تتوقع عراقيل تنزل عليك كالصواعق، وأقلها أن المدير قد غادر مقر عمله مبكرا، وفي هذه الحالة سيكون من العسير الاكتفاء بدفع الغرامة وإخراج السيارة، بل عليك أن تنتظر إلى اليوم التالي، وربما إلى اليوم الرابع لاستصدار فرمان بإخراجها بعد التغريم، وفي حال لم تجد المدير فسيتعين عليك أن تعقد صفقة مع أحدهم لإخراج السيارة بمبلغ خرافي. وهكذا يجد المنكوب نفسه في دوامة تجعل من التسوية مع ذلك المرتدي البزة المرورية أفضل الخيارات.
ثم إن سارت الأمور بصورة جيدة ودفع صاحب السيارة الغرامة، فإن الدوامة لا تنتهي، فبوابة المقبرة المرورية تلك تشبه "بوابة جهنم"، إذ يتعين على كل صاحب سيارة دفع "رسوم البوابة المرورية"، وهي اختراع مروري جديد يفرض مبلغا ماليا على كل من يخرج سيارته من تلك المقبرة أيا كانت الظروف والمبررات.
إن كان الهدف من الحملات هو الحد من المخالفات وتكريس قواعد الالتزام بالقانون لأغراض السلامة المرورية والدواعي الأمنية والاجتماعية، فلا يعني ذلك أن يفسح المجال لانتهازيين لا يكترثون لتطبيق القانون قدر استغلال هذه الحملات لمصالح نفعية آنية.
وربما لا يعرف المديرون أن أمثال هؤلاء يتسببون في كوارث كبيرة عندما يخلون سبيل بعض المركبات والسيارات التي يجيد أصحابها التعامل معهم ويعرفون ماذا يريدون.
مع إقرارنا بأهمية الحملات المرورية، واحترامنا لرجال المرور الشرفاء الذين يحترمون عملهم ولا يستغلونه على هذه الشاكلة، فإن من الضروري على قيادات المرور وضع ضوابط صارمة للحد من عمليات الابتزاز التي تحدث قبل التفكير بتنظيم حملات.
[email protected]