في رحيل فلتة الأغنية اللحجية فيصل علوي

في رحيل فلتة الأغنية اللحجية فيصل علوي

زمان والله زمان
*هدى العطاس
يا ورد يا كاذي:
أحقا غادرتنا، انسللت تاركا إيانا مشدوهين باللهاث اليومي، بالغثاء السياسي، بوعثاء سفر طال أمده في نفق مظلم لا تصحبنا فيه أغاريدك البهيجة، لأنك تغرد للقلوب المفتوحة والسموات العالية.
أأعذرك؟ وأكابر على حزننا وفجيعتنا بوفاتك! حسنا: سأتفهم مغادرتك، فمثلك لا يليق به زمن السبات الفني، والقحط العام، وأنت من "دوزنا" أوتار بهجاتنا على عزف عوده وإيقاع نغمه، مجذوبين نتمايل رقصا في حضرة الغناء اللحجي الجميل، ينثال من فضة صوتك، وضبطنا بالعشق محمولين على رسائل أغانيك.
تغادرنا باكرا، بعد أن ظللت تقارع مكابدة أكثر من وجع نفسي ومعنوي وعضوي، منكفئا في عيشتك البسيطة وبيتك المتواضع، مقارنة بقصور يحترف ساكنوها أنكر الأصوات، ولا يفقهون سوى القبح والنشاز. كانت قلوبنا تعتاش على فنك الجميل، وهؤلاء كانوا ومازالوا يعتاشون على وجعنا ونحيبنا.
فيصل علوي: تواريت عنا أنت العظيم مشيعا في جنازة هزيلة، لم يحرص حضورها المتكالبون في المناصب وعليها، المترهلون دونما مواهب. لو كنت في السلطة، أو كنت تمتلك توزيع تلك المناصب والعطايا، ولو ممهورا بالغباء السياسي -وهو طبيعة المتسلطين في هذه البلاد- أو متنطعا سياسيا تلت وتعجن في سفسطة القضايا (الكبرى)، وتبدو من أصحاب الحل والربط، لخب القوم للحضور نفاقا ورياء ومصالح. لم تخسر الكثير بغيابهم. فلتنعم روحك محفوفة بملايين القلوب داخل اليمن وخارجها، التي سكنتها بفنك، فشيعتك لاهجة بالامتنان والدعاء.
لقد غادرتنا حينما أصبح شعار الوطن: العفن لا الفن.
يا لذكاء روحك الصداحة حينما تحسست زمن النعيب، فلاذت بالملكوت الأعلى، تاركة في تاريخ الفن اليمني، وذاكرة الناس، بصمة العطر وأريج الفل من بساتين لحج الحسيني، ودندنة شجية لطالما أضاءت بهاءات عمرنا الذي مضى، وسنظل نمتح منها تفاؤلنا في سني عمرنا القادم... وعلى الحسيني سلام!
hudaalattasMail
 
**********************
 
رحيل لا يليق إلا بالكبار
فيصل الأسطورة
* ماهر  الشعبي
ما أشبه الليلة بالبارحة أشبه ما تكون بالكابوس، بالأمس كنت تعزف شغفا وفنا والجماهير يبادلونك حبا بحب، تردد خلفك وتصفق لك وأنت مبتسم، لم تخذلك تلك الجماهير التي هاجت بمجرد سماع الخبر الذي نزل علينا كالصاعقة وانتشر كالرماد في الريح، منهم من انخرط في موجة بكاء، أما أنا فقد تسمرت في مكاني لحظة سماعي النبأ وكأنما شلت أعضائي.
فيصل علوي ليس فناناً فحسب، بل هو أستاذ عملاق تعلّمنا منه أصول الفن والغناء وتعلّمنا كيف يكسب الفنان جمهوره، وأن الدنيا بدون حب الناس لا قيمة لها، فيصل الذي كان إذا أطلّ على الجمهور بابتسامته الجذّابة وطلعته البهية، وقف الجميع احتراماً وتقديرا له.
فيصل.. فنان عظيم.. وعملاق بقي على القمة حتى آخر لحظة من حياته... ولكنه فارق الحياة ممتطياً صهوة فرسه الأبيض.. الفارس الذي تقلّد "عوده". لقد تصوّرته فارساً وهو يحمل سيفه ليبهر الناس بقوة بأسه... فسيبقى في قلوبنا وعقولنا... عملاقاً.. عاش فنّاناً ومات فنّاناً.
وداع مثير ومؤثر يتناسب مع سيرته ونهجه في الحياة. جاءت طريقة الرحيل المفاجئة والمثيرة للفنان القمة كامتداد لمسيرة ونهج هذا الرجل المغوار... ومثلما هو فيصل قمة في كلّ شيء.
مئات المرات اشتقت فيها إلى جلسة من جلساتك التي ينتثر فيها فنك مع عظمة موهبتك وحنجرتك الفريدة ونفثات صدرك الحكيمة وأنت تملأ المكان ضحكا..
هل أنت ميت الآن يا عزيز، جعل الموت فكرة لا تبارحني، ماذا يعني الموت؟..
وماذا تعني الحياة بدون فيصل؟!
أين أنت الآن؟
وكأني اليوم أرى ذلك المنظر وأنت محمول على الأكتاف..
وأنت الذي قلت ذات يوم: "اشتقت لك وبعثت لك مكتوب وشرحت لك عن حالي المتعوب أنا أسالك بدمع العين هذا الجفاء لوين لوين يا محبوب قلبي معك يمانيتي مازالـ"
"بين أحضانه وضحكه والعناق انتسي همي وأهلي والرفاق راجعوه يا ناس الحياة نعمه بجنبه لو أراد"
"يا قلبي المعذب كفاك جرحك في الهوى داخلي يا قلبي على ماذا النواح كلك يا فؤادي جرح في الهوا"
"مش عادتك يا حبيبي تبعدني منك بعيد مش عادتك تجفي قلبي وأنت حبيبي الوحيد"
هل رحلت عنا حقا..؟!
نعم رقص حتى الصباح. ومن عرفك بات حزينا باكياً غناؤه نواح..
ذلك الطير المغرد الصداح مات قبل الفجر قهراً قائلاً:
أصمتوا لقد رحل عنكم حبيبكم أبو باسل.
الفنان قدم خلال سنوات عطائه الفني مئات الأغاني التي لن تنساها الجماهير الفنية، ولحن له كبار الملحنين وأعطاه الكلمات رواد الكلمة، وأحبته صفوة الجماهير، فيصل أبدع الجزيرة والخليج بتلك الروائع لتي لن تنسى، ربما لن يعوض لسنوات طويلة قادمة.
أنت الآن في عداد الموتى لن تستطيع أن تحدثني عمن خذلك من زملاء المهنة، عن أمنيات كنت تحلم بها.. عن أشياء كثيرة..
ربما تريد أن تسمع شيئاً من الدنيا منذ أن دلفت قدماك إلى الدار الآخرة بصمت ولم يكترث الكثير بالفاجعة بقدر ما قدمته أنت لهذا الوطن الذي تغنيت فيه سنين طوال وأنت تكافح في وطن قدمت له أكثر مما أعطاك.
هذه الدنيا يا فيصل، حقيرة وتافهة لا تستحق منا الركض خلفها، في كل يوم نبحث عن آخر أفضل. لا شيء فيها غير الظلام، لا فرح لا حزن.. لا ألم.. لا شيء أبداً..
"إني بك متعب يابو علوي"
لا يوجد هنا ما يسعدنا ويسلينا وينسينا كدر الحياة، التي لا طعم لها بدون ابتسامتك وإطلالتك البهية..
من قصور لحج أطلّ علينا فيصل علوي ليقدم لنا أجمل وأروع الأغاني اللحجية من كلمات الأمير الشاعر أحمد فضل علي العبدلي (القمندان) والشاعر عبدالله هادي سبيت والكثير غيرهما من الشعراء حتى طغى التراث اللحجي على عدد من الفنون اليمنية الجميلة مثل الصنعاني واليافعي وغيرهما.
وأمام ثورة غنائية دخلت الأغنية اللحجية إلى كلّ منزل في عموم اليمن شمالا وجنوبا، وانتشرت على مستوى الجزيزة.
mahershabiMail