صنعاء، عاصمة البلدة الآمنة.. أم المنطقة الخضراء؟

صنعاء، عاصمة البلدة الآمنة.. أم المنطقة الخضراء؟

نقطة نظام قبل مؤتمر لندن!
*مروان الغفوري
فضّلت صحيفة "نيويورك تايمز" أن تختتم العام، 31 ديسمبر 2009، بافتتاحية عن اليمن. كانت الافتتاحية صريحة ومكاشفة. فهي، من جهة، تتحدث عن مخطط اقتصادي يستهدف اليمن يعكف عليه الأوروبيون والأمريكيون والسعوديون منذ أشهر. من جهة ثانية: تهاجم الحكومة اليمنية، التي من المفترض نظريّاً أن يعهد إليها بإدارة وتمشية هذا المخطط الاقتصادي. فالحكومة اليمنية، بالنسبة للصحيفة الأشهر عالميّاً، قمعية وفاسدة. كما أن فساد الحكم في اليمن هو الذي تسبّب في (كل هذه الفوضى الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية) التي ينبغي على الإدارة الأميركية أن تعمل على إزالتها، طبقاً للصحيفة. في الجانب الثاني من الأطلسي كان غوردون براون يلتقط كرة الغولف الأميركية ويضربها في اتجاه أبواب العالم: اليمن أصبح يمثّل تهديداً للأمن العالمي. هكذا بعد ساعات قليلة، وحسب.
اليمن، الذي يمثّل تهديداً، ليس هو اليمن السعيد. إعادة ضخ القليل من السعادة في هذا الجسد المكروب تقتضي تغييراً جذريّاً في قواعد التعاطي مع المشكلة اليمنية، التي هي بفعل مصادفات معقّدة مشكلة عالمية. وزيرة الخارجية الأميركية قالت إنها ستخبر اليمن في لندن بالأشياء التي ينبغي فعلها. وقفت "نيويورك تايمز" بموازاتها ورفعت صوتها بصراحة: نظام الحكم في اليمن يكترث للسلالة لا للشعب. على موجةٍ مختلفة كان المنطق الرسمي اليمني يرحّب بالدعوة لمؤتمر عالمي "حول اليمن"، ويعدّه إنجازاً جديداً للسياسة الخارجية اليمنيّة، أو قل: لتلك الحكمة اليمنية التي تمتلكها كل دول العالم باستثناء اليمن.
دراسات شؤون العالم الثالث توصّلت إلى استنتاج أن وعي الحاكم وسياساته ورؤاه تتحكم في 80% من نسب النجاح أو الفشل في تلك الدول التي تعيش حالة بطريركية أحادية، طبقاً للباحث المعروف المعتز بالله عبدالفتاح. تحضر الوصاية الدولية هُنا كشهادة سوء سيرة وسلوك لنظام البطريرك.. هكذا، إن مؤتمراً دوليّاً لا يعني -في أكثر تبسيطاته تفاؤلاً- أقل من "إيمان المؤتمرين بلا جدوى الرهان على نظام الحكم". إنها تلك الدعوة العالمية التي تضعنا أمام صورة العالم الجديد: حيث ينبغي أن توضع الدول الفاشلة تحت الوصاية الكاملة لدول المال والهيمنة. لقد أصبح العالم متداخلاً لدرجة أن إرهابيّاً واحداً أصبح كفيلاً بتغيير لغة العالم، وإسقاط حكومات العالم النظيف. لا بُد أن يكترث، إذن، أوباما لسقوط شعبيته إلى 40% في عام واحد. فهذا السقوط يُعد –طبقاً لصحيفة "لوفيجارو"- أسوأ سقوط لرئيس أميركي في عامٍ واحد. ما النسبة السالبة التي يتوقّع أن يضيفها "عُمر الفاروق عبدالمطلبـ" إلى سجل أوباما، زعيم الأنتي بوشيزم (ضد البوشية)؟ لقد كان على برويز مشرّف أن يستقيل، ولو بصورة غير مشرّفة، عند اللحظة التي تأكد فيها العالم أن "برويز مشرّف لن يؤدي لسوى مزيدٍ من الفوضى عابرة الحدود". لقد أدرك برويز مشرّف هذه القواعد الجديدة في الوقت الضائع، حيثُ لم يعُد يتوفّر له غير وقت قصير لا يكفي لسوى قراءة بيان الاستقالة، التنحّي.
حسناً، الحكومة اليمنية ستذهبُ إلى لندن للمرة الثانية خلال 4 سنوات. في المؤتمر الأوّل حصلت اليمن على أقل من 5 بلايين دولار. قال رئيس الجمهورية لقناة إم. بي. سي. إنّ 85% من المبالغ المخصصة قد صرِفت بالفعل. لم يوافقه رئيس وزرائه، بالرغم من تأكيد السيد الرئيس عن نفسه "أفضل من يفهم الملف اليمني". قال مجوّر لصحيفة "الوسط" إن المبلغ المسحوب هو 350 مليون دولار (7% فقط). لم تكن القيادة اليمنية تعرف ما الذي تريده من مؤتمر لندن الأول. في المؤتمر الثاني لا يبدو أن الحكومة اليمنية، ومن خلفها القيادة السياسية، بأحسن حالاً من وضعها قبل 4 أعوام. يتحدث الطيبون في القيادة السياسية، وفي الحكومة، عن مؤتمر لندن بحسبانه انتصاراً لحسابات السلطة على أكثر من صعيد. بينما يتحدث منظمو المؤتمر عن ضرورة التعامل الحازم والصريح مع نظام الحكم اليمني، فقد خذل أصدقاءه بأكثر مما يمكن أن تحتمله الدبلوماسية العلنيّة.
لدينا صورة مروّعة من الملائم إعادة فحصها قبل مؤتمر لندن: يعترف رئيس مصلحة الضرائب لصحيفة "26 سبتمبر" أن عائدات الضرائب للعام 2009 بلغت: 339 مليار ريال يمني. يضيف أيضاً: نسبة التهرب والتهريب والإعفاء غير القانوني (أي نسبة الفاقد الضريبي) تصل إلى 80% في العام. بعملية حسابية بسيطة: لقد فقدت اليمن مبلغ 6 مليارات دولار من عائدات الضرائب التي كان من المتوقع أن تذهب إلى الخزينة العامة. يقول الاقتصاديون: إن حكومةً تتساهل في تحصيل الضرائب المستحقة هي حكومة لا تكترث لمستقبل شعبها، ولا تعمل على بقائه حيّاً وقادراً. هذه الحقائق الرقمية تضعنا أمام الحقيقة الكبيرة غير الرقمية: إن نظام الحكم في اليمن لا يكترث لمستقبل أبنائه، وبالتالي فهو لا يعبر عن أشواقهم وتطلعاتهم. على نفس الموجة كانت صحيفة "نيويورك تايمز" تتحدث، كما أشرت منذ قليل. والفساد بالفساد يذكر: يمن جاك، صحفيون ضد الفساد، رصدت حالات فساد ب7 مليارات ونصف المليار (دولار أميركي) لعام واحد. اعتمد الزملاء في "يمن جاكـ" على التقارير الصحفية، ببساطة، وهو ما يعني أن هذه المليارات السبعة ليست سوى رأس جبل الجليد!
لو أن اليمن استطاعت أن تحصد التزامات مالية جديدة من دول مؤتمر لندن الجديد بواقع 6 مليارات دولار، فإن هذه المبالغ –التي لن تُحصّل في ما بعد لأسباب نعرفها جيّداً- ستساوي بالضبط ما تفقده الخزينة العامة من عائدات الضرائب في العام الواحد. السبب في كل الحالات هو ذلك الذي تضعه صحيفة "نيويورك تايمز" في مقدمة افتتاحيتها: إن النظام اليمني قمعي وفاسد، كما أن الحكومة لا تسيطر على ما هو أبعد من حدود صنعاء. إنها صنعاء، من جديد، التي بات ينظر إليها بوصفها "المنطقة الخضراء" في اليمن، حيثُ تحدّها الخرابات من كل جانب. نحواً من هذا تقوله الأجهزة الأمنية اليمنية وهي تحاول أن تقدّم نقيضه. فهي تطمئنُ الدول الصديقة بأن الأمن في اليمن بلغ صورته المُثلى، والدليل: هذا ما تشعر به السفارات والقنصليات الأجنبية (في صنعاء)! لا ينبغي الاستسهال في التعامل مع ما تقوله صحيفة "نيويورك تايمز"، أو قراءته بمعزل عن المنطلقات التي تحكم نسق التفكير الأميركي. كما لن يكون بمقدور "المصدر المسؤولـ" أن يتعامل مع ما تضعه الصحيفة في افتتاحيتها كما تعامل مع افتتاحية صحيفة "الأهرام" منذ أشهر.
منذ أيّام رحل المهندس فيصل بن شملان. كان من أهم ما قاله في مؤتمر تكريمه عقب إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية: الإصلاح السياسي هو المدخل الوحيد لإصلاح الحال في اليمن، ومن اعتقد بغير ذلك أو تصرّف على خلاف هذه الحتمية التاريخية، فليعلم أنه إنما يستمر في العبث والفوضى. لم يقل فيصل بن شملان هذا النص تماماً، لكنه قاله روحاً ومعنى. صحيح أن الرئاسة اليمنيّة لم تعزّ أسرة المهندس في رحيله، وهذا أمرٌ من المتوقّع أنه سرّه كثيراً في قبره، إلا أن العالم المتحضّر تبنى مقولته في أسبوع رحيله حول الإصلاح السياسي الحقيقي والحداثي كمدخل وحيد لنجدة اليمن. المعلومات تشير إلى رسائل خارجية تصل إلى اليمن كلها تدندن حول هذه الجدليّة، أو: هكذا ينبغي أن تتحدث تلك الرسائل.
thoyazanMail