عن السجين بجاش الأغبري.. أنموذج فريد للمناضل الوطني الجسور

الدكتور حسين العاقل يكتب عن السجين بجاش الأغبري.. أنموذج فريد للمناضل الوطني الجسور

قليلون هم المناضلون الصامدون في سجون القهر ومعتقلات الباطل.. لكنهم رغم شدة المعاناة وقساوة الظروف الاجتماعية، ومرارة الضيم وأهوال التعذيب، يتحلون بمعنوية الصبر، وشموخ الكبرياء وعزة النفس. إنهم رجال نادرون في وفائهم وتضحياتهم، نذروا أرواحهم فداءً لوطنهم وفي سبيل حرية وسعادة شعبهم وكرامة أمتهم.
إنهم الوحيدون السباقون للتضحية، وأول من يدفعون ثمن قناعاتهم لتحقيق أهداف وتطلعات شعوبهم في ترسيخ نظام وطني يقوم على العدالة والمساواة الاجتماعية.
وهم أيضاً أول من يستشعر واجب الدفاع عن مكاسب وحقوق أبناء شعبهم، حين تستشري مظاهر الفساد ونزوات التسلط، وتعم أخلاقيات الهيمنة، وتستفحل قيم التعالي والاستبداد. فيكونون في مقدمة الأبطال وفي طليعة المقاومين والرافضين لسياسة النهب وجبروت الاستحواذ غير المشروع.
لذلك فهم أول الضحايا الذين تصطادهم أجهزة القمع والإرهاب، التي تسارع باستخدام مختلف أساليب بطشها وصولجان نشوة انتصارها بالقبض عليهم والزج بهم في غياهب السجون اذا أنجاهم القدر من مشانق الموت ورصاص الإعدام.
وأمثال هؤلاء المناضلين تعتبرهم سلطات النهب والفساد، مصدر الخطر على مصالحها، باعتبارهم يمثلون نواة الشرفاء والمخلصين لرفض ومقاومة أطماعها وكشف وتعرية فضائح ممارساتها العدوانية وغير القانونية، لذلك فمن عادة الأنظمة الظالمة أن تشبع رغبات حقدها عليهم بالانتقام بتكييف تهمها الكيدية ضدهم، والاستعجال باعتقالهم وتكبيلهم بسلاسل القيود الحديدية في غرف انفرادية بهدف تعذيبهم وإذلالهم.
وتأكيداً على هذه الصورة القاتمة التي نعيشها ونتكبد مآسي نتائجها في الجمهورية اليمنية، فإننا سنعرض بصدق وأمانة بعض الحقائق المتعلقة بأحد المناضلين الشرفاء، الذي يستحق بجدارة هذا الوصف والتعبير، واذي لا نلقيه على بجاش علي محمد الأغبري بصورة جزافية أو تبجيلاً ومدحاً عفوياً أبداً، وإنما قد حق لي شخصياً أن أبين لكم بعض ما استطعت معرفته من أفعال بطولية تشرف بالقيام بها ابن جنوبنا الحبيب حين شارك بكل معاني الشجاعة والاستبسال مع مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في التسلل إلى أحد المواقع العسكرية الإسرائيلية في منطقة "عرَّيا" بجنوب لبنان عام 1982، ونفذوا عملية فدائية اخترقوا فيها متاريس الحواجز وتحصينات الرقابة الإسرائيلية، وتمكنوا بعزيمتهم المؤمنة بقضاء الله وقدره من تدمير إحدى الدبابات وسيارة نقل، وقتل عدد من الجنود. وأثناء الانسحاب أصيب البطل بجاش بطلقة نارية اخترقت الجزء الأيسر من بطنه، وهشمت حلقتين من حلقات عموده الفقري، لكنه بمساعدة رفاقه الأبطال وحفظ الله العلي القدير له، أمكنهم إبعاده عن الموقع الإسرائيلي إلى إحدى المزارع الكثيفة بأشجار عريَّا، وتتبع مواطناً لبنانياً، فتركوه بعد أن طلب منهم الفرار لينجوا بأنفسهم، وأسلم حياته لمشيئة الرحمن وهو في حالة إغماء وغيبوبة تامة، فشاء الله أن يهدي صاحب المزرعة بالعثور على الفدائى بجاش والقيام بإسعافه إلى مستوصف بمنطقة البقاع، ومنه إلى مستشفى المقاصد بالعاصمة السورية دمشق. ونتيجة خطورة الإصابة وسوء حالته الصحية اضطر لإسعافه إلى العاصمة السويدية ستوكهولم، حيث تولت علاجه ورعايته منظمة الصليب الأحمر السويدي.
ولكن ماذا حدث لبجاش الأغبري بعد شفائه وعودته إلى وطنه الغالي؟ وهل حظي بالتكريم والرعاية والتقدير؟ أسئلة كثيرة ليس بوسعنا الخوض في تفاصيل الإجابة عليها، ولكن يجب علينا الإشارة إلى أنه في الوقت الذي مازالت فيه الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وقائدها المناضل نايف حواتمة، تعتز وتفتخر بدور البطل الجنوبي، ويحظى باحترام وتقدير عميد الأسرى المناضل سمير القنطار، إلا أن ما يثير مشاعر الحيرة والاستغراب، أن يكافأ ويكرم هذا الفدائي الشجاع من قبل النظام السياسي وسلطة الوحدة المعمدة بالدم، ليس باختلاق التهم الكيدية وحبك المزاعم الباطلة والزج به في سجونها القذرة، فحسب، ولكنها تمكنت بشطارة مكرها ودهاء حقدها من اتهامه بقضية المساس بأمن الدولة، ومحاكمته بصورة مستعجلة والحكم عليه بالإعدام! هكذا كانت المكافأة والتكريم. وبعد الاستئناف عُدل الحكم إلى السجن 20 عاماً، يمضي منها حتى يومنا هذا 14/9/2009، حوالي 14 سنة و40 يوماً.
فهل عرفتم التكريم الوطني والقومي الذي استحقه بجاش الأغبري من قبل السلطة الرسمية في الجمهورية اليمنية؟ مع أننا لم نذكر سوى هذه الواقعة البطولية الفدائية لهذا الرجل المسجون ظلماً وباطلاً، بينما مسيرة حياته حافلة بالأعمال الجليلة والتضحيات التي يستحق عليها التقدير والاحترام. فإذا كان هذا حال بجاش المولود في محافظة لحج، مديرية المضاربة منطقة الصبيحة، والذي نعتبره بحق أول أبناء الجنوب من كان سباقاً للنضال السلمي في مقاومة الفساد وهمجية النهب والبسط والاستحواذ على أراضي المحافظات الجنوبية وتدمير منجزات دول النظام والقانون، واستغلال ثرواتها ومواردها النفطية والمعدنية والسمكية وخيراتها الزراعية، وكل ما وقع تحت أيدي الفاسدين وعصابات المجرمين، الذين للأسف هم من يُمنح الأوسمة والنياشين، ويكرم بتراخيص استباحة الأراضي والإعفاءات الجمركية وسرقة الأموال العامة. والأفظع من كل ذلك، أن هناك مجرمين احترفوا العبث بمقدرات الجمهورية اليمنية، وإهدار عائداتها، وسرقة ما استطاعوا من خيراتها، شكلت بخصوصهم هيئة عليا تسمى مجازاً "هيئة مكافحة الفساد"، لكننا للأسف للمرة الثانية والثالثة والعاشرة لم نسمع أو نعلم أنها تجرأت بتقديم أحد جهابذة الفساد الرسمي والحكومي إلى قفص الاتهام ومحاكمته على أفعاله السوداء.
ما يؤلمنا ويحز في نفوسنا نحن أبناء الشعب اليمني المقهور بعامة، والمسجونين بتهم كيدية وسياسية بخاصة، أن العشرات بل المئات من تجار المخدرات وقطاع الطرق ومختطفي السواح الأجانب، والمدانين بتهم النصب والاحتيال والتهريب وتجارة الفاحشة، وغيرها من الجرائم التي يندى لها الجبين، عندما يقبض عليهم وتصدر على أكثرهم أحكام بالسجن أو بالإعدام، نفاجأ بعد عدة أشهر أنه لم تكن أيام محدودة إلا وقد تم الإفراج عنهم وأطلق سراحهم بصورة تفوح منها وساطات وتدخلات من قبل جهات عليا لها نفوذها في انتهاك القوانين والتشريعات الرسمية. وهذه الحقائق لا نقولها عبثاً، ولكنها وقائع نعيشها داخل السجن المركزي بأنفسنا.
وخلاصة ما نريد توضيحه بخصوص المناضل بجاش الأغبري، أن عميد الأسرى وأشهر سجين لبناني في السجون الإسرائيلية المناضل سمير القنطار، قد زار اليمن وقابل فخامة الرئيس علي عبدالله صالح بتاريخ 21/4/2009، وقبلها وجه رسالة لفخامة الرئيس يطالبه بالإفراج عن بجاش علي الأغبري. فهل يتكرم فخامة الرئيس الصالح بمكرمته الوطنية والإنسانية بتوجيهاته الكريمة بإطلاق سراح المناضل بجاش الأغبري وإلغاء بقية السنوات بمناسبة خواتم الشهر الكريم وعيد الفطر السعيد، ليقضي ما تبقى له من عمر بين أهله وذويه، ويذوق لذة الحرية في العيش الهانئ مع فلذات كبده (وعد ومعاذ)؟ علماً أن ابنه معاذ (14 سنة) لم يتعرف عليه سوى مدة ساعتين فقط حين سُمح له مقابلته داخل السجن المركزي بصنعاء.
وأخيراً نود أن نبعث بكلمات عتاب (لجمعية كنعان لفلسطين) لتقصيرها في رعاية أسرة بجاش الأغبري تقديراً لتضحياته الفدائية على الأقل إن لم يكن بوسعها متابعة الإفراج عنه.
وخواتم مباركة وكل عام والجميع بخير.
                                                                           بقلم السجين ظلماً:
                                                                      الدكتور حسين مثنى العاقل
                                                                              جامعة عدن
                                                                              14/9/2009