الحياة السياسية والمركز المقدس

الحياة السياسية والمركز المقدس

   محاولة يائسة للعودة إلى ما قبل الفوضى! (2-2)

عادةً ما تشكل الخلفيات التاريخية لأي ظاهرة أو واقع سياسي وبالأخص ما يتصل بالنشأة وظروف البداية ودواعي التكوين، مدخلاً لفهم واستيعاب التعقيدات الطارئة على ذلك الواقع في المراحل الزمنية التالية لحقبة التأسيس والنشأة.
في جزئية النشأة، يبدو جلياً، أن مزاعم ربطها بنتائج حرب 94، ضرب من التسطيح على اعتبار ان حقائق التاريخ الموضوعية التي يمكن استقراؤها بتجميع نقاط الالتقاء في الروايات التاريخية المختلفة، تثبت أن فكرة المركز المقدس من حيث النشأة، بدأت من ناتج التفاهمات بين من تبقى من الجمهوريين والملكيين عقب انسحاب الجيش المصري المساند للثورة السبتمبرية.
مضمون الناتج حوى طرفي النزاع بالإضافة لأطراف قبلية وسياسية واقتصادية مؤثرة، ناتج المتناقضات، أوجد صراعاً على الحكم بين أجنحة متنفذة أخذت تتحول الى مرجعيات سلطوية لحكام شبه صوريين، ساعدها في ذلك أمران الأول: نجاحها في استئصال قيادات عسكرية جمهورية (عبدالرقيب عبدالوهاب وأحمد عبدربه أنموذجاً) والثاني: تأييد ودعم لوجستي ومالي خارجي عبر الشقيقة الكبرى.
كانت بداية المركز المقدس أشبه بـ"حلف عسقبلي" يدير شؤون الحكم والدولة وفق قاعدة المصالح المشتركة، وبما لا يتقاطع مع محددات عامة تم وضعها من قبل الجارة الداعمة المهيمنة.
بصعود الحمدي، الذي كان أحد مكونات الحلف، الى سدة الرئاسة، وبدايات حكمه التي حوت عناوين تحلل مرتقب من معادلة الشراكة (العسقبلية)، أخذت أجراس الإنذار تُقرع مع كل خطوة للحمدي.. كانت مكونات الحلف تتداعى وتحتشد لمواجهة معركة وشيكة الحدوث.
لم تكن السياسات الإقصائية التي إنتهجها الحمدي تجاه رموز الحلف كمقدمة شرطية لبناء دولة وطنية، هي المسبب الرئيسي، للمؤامرة الانقلابية الغادرة، إذ كان لمحادثات الوحدة مع القيادة اليسارية التقدمية للحزب في الجنوب، دور في طباخة المؤامرة، لينجح الحلف بتمويل الجارة، في إسقاط الحمدي صريعاً، ويستعيد مكانته كمرجعية سلطوية للنظام الشمالي الهش القائم على المساعدات الخارجية.
 
>حسين اللسواس
شراكة مصيرية 
رغم ما راج عن أن حصاراً عسكرياً لصنعاء وتحركات ميدانية ذات طابع أمني، أوصلت صالح للسلطة، غير أن القواسم المشتركة للروايات المتعددة تميل لترجيح عامل لا يقل أهمية، ويتمثل في اتفاقات أبرمت بين مكونات الحلف والداعم الخارجي، أدت للموافقة على وصول صالح الى الحكم.
لم يكن باستطاعة الوافد الجديد على السلطة، ان يغير كثيراً في ملامح واقع ماثل، بل إنه (ربما) ولسنوات عديدة ظل مجرد واجهة ديكورية لحلف (عسقبلي) يدير دفة النظام وفق محددات الداعم الأجنبي (السعودية).
الانتقال التدريجي إلى مربع الشراكة الفعلية، مع مكونات الحلف، مكن الوافد الجديد من البدء في ترتيبات تكفل تعزيز أسهمه بين الشركاء.
فرضية التماسك الإجباري بين أجنحة الحلف، مبررها نابع من وجود كيان سيادي (دولة الجنوب) ينشد القضاء على سلطة الحلف ويتحين فرصة للانقضاض، وهو تماسك تسبب في تمركز سياسي للسلطة والثروة، تحكمه وتنظمه اتفاقات الشراكة بين الأجنحة والمكونات، باعتبارها لا تقتصر على شراكة حكم وسلطة بل على شراكة مصير أيضاً.

***
مكونات المركز المقدس
مصطلح سياسي كـ"مجلس الرئاسة او القيادة" ربما لا يشكل تعبيراً دقيقاً يمكن إسقاطه على سبيل الوصف، لتشبيه مكونات الحلف القديم آنذاك، غير أنه من الناحية (المجازية) قريب لواقع ما كان ماثلاً.
الشيخ الأحمر، الرئيس، مجاهد، علي محسن، القاضي، الزنداني، ياسين القباطي، عبدالوهاب الانسي، اليدومي، المتوكل، الديلمي، محمد عبدالله صالح، عبدربه منصور، محمد وعلي صالح.. وغيرهم، أسماء، وفق الافتراض المجازي، يمكن اعتبارها بمثابة التركيبة القيادية للمركز المقدس في نسخة ما قبل الوحدة.
إضافات ما بعد الوحدة شملت كبار التجار وقيادات قبلية محدودة، ما لبثت أن توسعت بدخول الأبناء والأنجال، وبالأخص أبناء الشيخ والرئيس وشقيقه، وهو دخول أسهم في إقحام المركز او الحلف في دوامة من التململ سرعان ما أنتجت واقعاً استقطابياً وصراعاً صامتاً ثم انقسامات وتقاطعات.

***
المركز المصغر!
برحيل كل من الشيخ الاحمر ومجاهد والمتوكل ومحمد عبدالله صالح، برز توجه رئاسي يرمي لإختزال (المركز المقدس)، في مركز اصغر حجماً، قوامه يضم نافذي الجيل الثاني من أنجال الرئيس وابناء شقيقه الأكبر.
نجاحه في بناء جيش نوعي (الحرس الجمهوري) وتمكنه من توظيف حرب صعدة لإنهاك التشكيلات العسكرية التابعة لعلي محسن، تلك وغيرها، مسببات مباشرة، ساعدت في المضي قدماً بتنفيذ الاستراتيجية الاختزالية التي بلغت حداً دفع بقية أركان (المركز-الحلف) القديم لانتهاج أسلوب تكتيلي والسعي لإعادة إنتاج المركز الآخذ بالتحلل التدريجي في صيغة اصطفاف مناوئ للتوجهات الاختزالية.
عند الحديث عن المسببات لايمكن إغفال الواقع الناشئ عن نتائج الحرب الخامسة في صعدة، على اعتبار أن نجاح المشروع الاختزالي كان يستلزم إعادة رسم خارطة القوى العسكرية (كونها تعد المرجع الأكثر تأثيراً في اتجاهات الحكم داخل الدول بسيطة التكوين).
بدأ السعي حثيثاً للوصول الى أقصى استفادة ممكنة من نتائج المعركة لتحقيق غاية إعادة الرسم، لاسيما مع بروز اتجاه لتشكيل مليشيا شعبية تتبع الجارة الكبرى، تتولى مهمة رفع وزر الحرب عن كاهل الفرقة الأولى مدرع، بموجب السعي، تم إقصاء عدد من القيادات الوسطية للفرقة، عبر نزول لجنة من وزارة الدفاع تولت تصفية كل من لم يكن موجوداً ساعتها، من الجنود والضباط، تلا ذلك إقصاء مبرمج بقرارات عسكرية من مكتب القائد الأعلى، لرموز عسكرية مقربة من علي محسن في بعض الألوية والأماكن الحساسة كـ"الاستخبارات العسكرية".
السعي الحثيث، لم يكن ليقف عند حد التهدئة، لو لم يبلغ الوضع الميداني أعتاب المنطقة البرتقالية، هنا، لعل البعض لازالوا يتذكرون التحليق المرعب لسلاح الطيران فوق أجواء العاصمة لعدة أيام بالتزامن مع إجراءات استثنائية وتحركات ميدانية للألوية والوحدات العسكرية عززت من مصداقية الإفتراض الخيالي، بوجود محاولة انقلابية ومؤشرات مواجهة بين القوتين العسكريتين الرئيسيتين.
خلال مرحلة ما قبل هذه الجولة الصاخبة بمدة كبيرة، وبعدها بأسابيع وجيزة، كان العميد احمد صالح، يتمتع بصلاحيات كبيرة، وبدا واضحاً ممارسته لسلطات سيادية وبالأخص في ملف التجارة والاستثمار، تسببت في رفع مؤشرات الغضب لدى أركان (المركز-الحلف) القديم، لكنها –أي الصلاحيات- مالبثت عقب الجولة الصاخبة ان تقهقرت بصورة تدريجية لافته، وهو تقهقر حمل في جنباته تأكيداً بوجود رغبة رئاسية لفرملة تطلعات أحمد، وإبقائه في مربع الانتظار، لحين الانتهاء من إزالة العثرات التي تحول دون تسلمه لمهام سيادية.

***
عودة الرئيس للمركز المقدس
بلا معاناة او تمحيص، يمكن التقاط حقيقة مؤداها أن التراكم الأزماتي المفتعل كنتاج لصراعات المركز المقدس القديم، مع المركز المصغر الأسري، وبالأخص على صعيد القضية الجنوبية، أدى لتوجه رئاسي بتعليق (المركز المصغر) مؤقتاً والعودة الى الحلف التأريخي (المركز المقدس).
أولى نواتج العودة، الاتفاق على حسم قضية صعدة عسكرياً، في مقابل تهدئة الالتهاب الأزماتي المفتعل في بعض مناطق الجنوب.
***
تقاطع أحمد علي مع المركز
رغم الترجيحات التي تفترض حتمية العودة لمربع الصراع بين صالح ومركزه المصغر (الخاضع للتجميد المؤقت) من جهة وبين المركز القديم المقدس (الحلف التاريخي) من جهة أخرى، إلا أن احتمالات إبرام تفاهمات تاريخية لتحديد ملامح مرحلة ما بعد علي عبدالله صالح، امر غير مستبعد الحدوث.
في التفاصيل، لا يبدو ان الحلف سيتراجع عن موقفه الرافض لخلافة احمد، كون تلك الموافقة، تقوض من استمرارية هيمنة المركز على شؤون الحكم والدولة والتجارة، فالمركز يرى ضرورة وجود اسم مقبول شعبياً كواجهة لضمان تكريس الهيمنة واستمرارها، غير أن الإصرار الرئاسي على هذه الجزئية، ربما يؤدي لإحداث حلحلة باتجاه مربع القبول ولكن بشروط، منها، مثلاً، عدم تمتع أحمد بجميع صلاحيات والدة شبة المطلقة، مع إعادة ترتيب لأركان المركز بصورة تكفل استتباب الهيمنة التاريخية على أجزاء البلاد وإجراء عملية محاصصة للكعكة (إزالة أسباب الصراع)، وهو أمر مرفوض من قبل أحمد الذي ما انفك محبوه يؤكدون نزوعه نحو فكرة الدولة وإصراره على تنفيذها ومناهضته لاستمرار (المركز المقدس) في نهب ثروات الوطن والشعب..!

***
بين المشترك والمركز
بشيء من الاجتهاد التأملي، سنصل لحقيقة تعزز صدقيتها الاحداث والمواقف، مضمونها عدم قدرة (المركز المقدس) على توجيه المسار السياسي لأحزب اللقاء المشترك، الذي كان أمراً ممكن الحدوث في فترات مضت وإن بصعوبة.
خروج المشترك، عن نطاق السيطرة، المركزية في قراراته ومساره له ما يبرره، فالغالبية المكونة للائتلاف الحزبي المعارض، وهي (الاشتراكي، الناصري، البعث، الحق، اتحاد القوى) لاتملك تمثيلاً واضحاً في التركيبة القيادية للمركز المقدس، أي أنها جزء من القوى الخاضعة للإقصاء وهو إقصاء، مكنها من تمرير إطروحات لا تحظى بترحيب في التكوين السادس، الأكبر حجماً وتأثيراً، التجمع اليمني للإصلاح.
ثمة ما يشبه التعقيد في هذا الجانب، فالإصلاح وإن كان على مستوى القواعد الحزبية يتفق مع بقية تكوينات المشترك، إلا أن هذا في أحايين كثيرة لا يسري على المستوى القيادي.
السبب أن بعض القيادات الإصلاحية كالزانداني والآنسي والقباطي لازالت متمسكة بموقعها في المركز المقدس وتعد شريكاً (منخفض الأهمية) في التركيبة القيادية المعقدة للمركز.
ببساطة، يمكن القول إن هذا يعد السبب الأبرز في عدم قدرة لجنة الحوار الوطني التابعة للمشترك على إخراج الرؤية الموعودة والمنتظرة، لكونها تتضمن موقفاً مناهضاً لما يقوم به المركز المقدس من هيمنة سياسية واقتصادية مثلما هو الحال مع مطالبتها بحوار وطني شامل يحقق غاية إعادة النظر في شكل وتركيبة النظام السياسي وبما يؤدي لشراكة سياسية واقتصادية حقيقية بين مركز الدولة والأطراف.
الخروج الدراماتيكي للإصلاح من المنظومة الحاكمة عقب 97، لم يؤدي لإنهاء تمثيله داخل المركز المقدس، وهو تمثيل يتوافق في الرؤى والتوجهات مع الجناح المناهض للمشروع الإختزالي الفائت ذكره.

***
تخليق الوعي الجمعي
جناح الغالبية في المشترك يبذلون مساعي حوارية داخلية لإقناع الشريك الحزبي الأكبر بضرورة التركيز على جذر المشكلة وهو التمركز السياسي للسلطة والثروة الذي حال دون نمو بقية أجزاء البلاد وأخفق في إيجاد تنمية متوازنة بين مناطق الأطراف والمركز هذا عدا عن كونه سبباً رئيسياً في تصدير الأزمات وإنتاج المعضلات التي تواجه البلاد.
غير أن الشريك الأكبر لازال، على ما يبدو، يبدي تحفظات حول نقاط كثيرة، رغم اتفاق قواعده مع معظمها..!
على افتراض جدلي، حتى لو استطاع جناح الغالبية تمرير الرؤية بما تحويه من تشخيص ورفض لهيمنة المركز، تبدو فكرة التنفيذ صعبة المنال، لاسيما إذا ما علمنا أن أساس الفكرة قائم على إقناع الحاكم بتنفيذ النص الأول من اتفاق فبراير الذي ينص على ضرورة أجراء حوار وطني موسع لا يقتصر على (المشترك والمؤتمر)، وهو ما يعول عليه جناح الأغلبية كون الرؤية في الحوار، ستعبر عن المشترك، ولا يمكن التحلل منها او التنازل عنها.
مشكلة مناهضي المركز المقدس في المشترك اكتفاؤهم بالحوارات الداخلية، تحت مبرر الوصول الى صيغة توافقية قبل الإتجاة صوب الرأي العام، المبرر لايبدو ذا قدرة إقناعية على اعتبار ان فكرة الطرح تستلزم تأييداً جماهيرياً لن يتأتى إلا عبر خلق وعي جمعي بخطورة استمرار هذا المركز في احتكار كل شيء!

***
قواسم الشراكة والديمقراطية التوافقية
لنتأمل قليلاً في أطروحات الدكتور ياسين سعيد نعمان حول إعادة النظر في تركيبة النظام السياسي وخلق شراكة وطنية حقيقة بين الأطراف والمركز، هل ثمة التقاء مع فكرة الديمقراطية التوافقية التي كان الدكتور محمد عبدالملك المتوكل قد طرحها لنقاش عام عبر مقال يحمل إمضاءه..؟!
الإجابة تشير إلى وجود اتفاق والتقاء مع فارق هام يتمثل في عمق أطروحات نعمان، وبالأخص في جانب حديثه عن الدولة البسيطة والمركبة.
تنظيرياً وعملياً، يبدو أنها اكثر الخيارات اقترابا وتشخصياً وحلاً لأزمات البلاد، فاليمن لم يبلغ بعد مستوى يؤهله للقبول بتطبيق ديمقراطية الأغلبية والاحتكام لنتائجها.
لماذا إذن لا نترك الانتخابات التي يستخدمها المركز المقدس لإعادة إنتاج ذاته، جانباً، ونتحاور لإيجاد صيغة توافقية تحقق مبدأ الشراكة والعدالة مادام هذا سيؤدي لإنفراج الطريق المسدود..!

***
دعوة للإنصات
وأنت تقرأ ياسين سعيد نعمان، يخالجك شعور أن الرجل يصرخ محذراً من هاوية وشيكة، غير انه صراخ يتلاشى للأسف في فضاءات اللا إنصات..!
بالإمكان تشخيص الواقع على النحو الآتي: مركز سلطوي مقدس بات يخشى تآكل أدواته ووقوعه في منزلق انتفاء الشرعية، لذا نجده يسعى لإجراء انتخابات تكفل إعادة إنتاج نفسه دون شعور بحجم التعقيدات الناتجة عن صراعاته وسياسات الهيمنة التي يمارسها، في المقابل هنالك من يصرخ محذراً من الاستمرار في منح هذا المركز امتياز إعادة إنتاج نفسه ومطالباً بشراكة حقيقية تحول دون مآلات التشرذم والتجزئة، في هوامش المشهد قوى تبحث عن آلة الزمن للعودة إلى عهد ما قبل الثورة.
أي تلك التكوينات شخص الداء ووصف الدواء؟! في تصوري أجد أن الحديث عن الاستحقاقات السياسية الانتخابية في ظل ثالوث التمركز السياسي، صراعات المركز، الأزمات المجتمعية، ضرب من العبث بمستقبل البلاد.
ليقف الرئيس مطولاً عند عبارته المشهورة مادام الحوار هو النهاية للصراع فلماذا لا نتحاور قبل الصراع..!
مشكلة الحاكم حتى اللحظة عدم اعترافه بأن أزمات المركز ونتاجاتها الكارثية، الفوضى انموذجاً، جعلت من عودة الحياة السياسية للمربع السابق، أمر صعب المنال، تماماً مثلما جعلت الحديث عن الانتخابات في ظل ما تشهده البلاد صنف من العبث وإهدار الوقت.
لم يعد بالإمكان استئناف العجلة لمجرد الرغبة في إعادة إنتاج الذات، مع الأسف تلك هي الحقيقة المرة، الإنصات، إذن، لياسين سعيد نعمان، هو أكثر الحلول اتصافاً بالواقعية لإبقاء الوطن موحد الهوية والجغرافيا وإلا فخيارات التجزئة، الحروب، الثورات، الانقلابات، الفوضى، ستكون هي المحصلة شئنا أم أبينا..!
al_leswasMail