القائد الأمني الذي لا يرى يهود اليمن بالعين المجردة

القائد الأمني الذي لا يرى يهود اليمن بالعين المجردة - نبيل سبيع

كانت الأم اليهودية جالسة جوار زوجها الأعمى تقريبا والمشلول جزئيا تتحدث باكية أمام عدد من الصحفيين والحقوقيين عن حادثة قتل ابنها الوحيد على يد طيار سابق في القوات الجوية اليمنية، يوم 11 ديسمبر الماضي. من بين جميع المستمعين لها في إحدى غرف منزل أسرة القتيل «ماشا النهاري» في منطقة «ريدة» (100 كم شمال العاصمة صنعاء)، كان هناك شخص واحد فقط يتصرف بعدم احترام.
كان يقاطع ساخرا حديث الأم اليهودية الطاعنة في السن (في العقد السابع من عمرها تقريبا). لكن كل مقاطعاته وتعليقاته الساخرة ظلت بسيطة بالقياس على ما قام به لاحقا. في اللحظة التي انفجرت فيها الأم «ترنجة» (نخلة بالعبرية) ببكاء شديد، نهض واقفا وأخذ يدير كفه قرب الجانب الأيمن من وجهه في حركة كثيرا ما تستخدم في اليمن للإشارة على وصف أحدهم بالجنون. ومع هذه الحركة التي قام بها عدة مرات في وجه الأم والحضور والكاميرات، ردد مرارا اللفظة التي ترافق وتكمل في العادة مثل هذه الإشارة: «ترلللي.. ترلللي». هذا الشخص الساخر الذي نفذ أيضا عدة تصرفات أخرى مماثلة كان قد قدم نفسه باسم «عبدالله غراب» وصفة نائب مدير أمن مديرية «ريدة»، حيث يوجد أكبر تجمع لليهود اليمنيين في البلاد. وقد تهم الإشارة هنا الى أن تصرفه المذكور موثق، مع تصرفات أخرى مشابهة، في شريط فيديو.
بالرغم من أنه همَّ بمغادرة المنزل قبل أي من الموجودين، إلا أنه لم يفعل إلا بعد أن اطمأن من مغادرة الجميع. وخلال انتظاره مغادرتنا، تقدم خطوات أخرى في السباق مع نفسه على التصرف بعدم احترام. كنا قد تجمعنا في صالة الطابق الثاني من المنزل، حيث جرت اللقاءات مع أسرة «ماشا»، ننهي ما تبقى من أحاديث مع بعض أفراد الأسرة. وفي اللحظة التي هممنا فيها بالمغادرة، اقتربت أم «ماشا» من القائد الأمني الذي سخر منها وأمسكت بكُمّ جاكيتته (كان يرتدي الزي القبلي التقليدي ويتحرك خلفه دوما شخص يرتدي بزَّة عسكرية ويحمل كلاشينكوف). أخذت «ترنجة» تشده طالبة منه أن يرفع عينيه إلى أعلى لمشاهدة بنات «ماشا» اللواتي ما يزلن في الطفولة. كان هناك 3 أو 4 منهن، لا تتجاوز كبراهن السادسة تقريبا، يشاهدن حشد الغرباء والكاميرات في الصالة مستندات على درابزين السلالم المؤدية الى السطح. وكانت جدتهن تناشد القائد الأمني: «شوف.. شوف! يرضيك يتيتمين بنات ابني وعياله وهم صغار؟ يرضيك يتيتموا عيالك بدون سبب؟ هذا لا يرضي الله ولا رسوله». هل تتخيلون كيف كان رد الرجل؟
استجاب لطلب الجدة اليهودية وعاد خطوة إلى الوراء باحثا عما تود منه رؤيته. كانت حفيداتها الصغيرات أمامه وأمامنا جميعا. لكن رده أتى كالتالي: «أيش فيه؟ مش شايف حاجة. أشوف بس حديد (يقصد الدرابزين) وسمنت (يقصد جدران بيت السلالم)». قال هذا وهو يضحك.
هذا التصرف من نائب مدير أمن «ريدة» يمكن أن يمثل مدخلا ذا دلالة لقراءة المعاملة التي تلقاها الأقلية اليهودية المتبقية في اليمن. فلطالما بقيت هذه الفئة الصغيرة والضعيفة، التي يتراوح عدد أفرادها بين 400 و500 نسمة، خارج مجال الاهتمام والاحترام الرسمي والشعبي. فهي بلا حصة تذكر في التنمية والوظيفة العامة والسياسة وأي فتات قد تحصل عليه أي فئة يمنية أخرى مضطهدة. وهي بلا حظ في فتات العدالة الذي قد تحصل عليه أكثر الفئات تعرضا للاضطهاد والظلم الاجتماعي والسياسي في البلاد. إنها فئة غير مرئية. وحين يتم النظر إليها، يحدث ذلك إما لاستهدافها على طريقة «عبدالعزيز العبدي» قاتل «ماشا»، أو على طريقة نائب مدير أمن «ريدة» الذي لا يرى من اليهود سوى بيوتهم وممتلكاتهم.
كنت جالسا في الغرفة الرئيسية للمنزل الحديث الذي انتهى «ماشا» من بنائه قبل 6 أشهر تقريبا. خلف وجوار هذا المنزل المتفوق على بقية منازل «ريدة»، كان هناك منزلان آخران يملكهما «ماشا» الذي جلست أتحدث مع ابنه «ساسان»، البالغ 13 عاما، والذي لم يعد يغادر البيت خوفا من اعتداءات الخارج. كان بعض الزملاء موجودا معنا في حين كانت البقية تستمع إلى حديث والدَي القتيل المحاطين بعدد من أحفادهما في غرفة أخرى، أو تدور في الصالة لالتقاط الصور وتبادل الملاحظات.
فجأة، دخل شخص متوسط الطول وممتلئ الجسم بملامح صارمة لا يصعب اكتشاف كم كان يبذل من جهود للإبقاء على تلك الصرامة ملحوظة وطاغية على أي شيء آخر في شخصيته. مد يده مصافحا ثم سألنا عما نعمله. رددنا، الكاتب ماجد المذحجي وأنا، سؤاله بسؤال عن هويته. أجاب مستنكرا: «أنا أقول لكم من أنا؟ أنتوا قولوا لي من أنتوا». ثم، ودون أن ينتظر منا ردا، قدم نفسه لنا: «عبدالله غراب.. نائب مدير أمن ريدة».
منذ لحظة وصوله، حضرت بيوت وممتلكات يهود «عمران» في حديثه باعتبارها عاملا أساسيا في ما يجري التحضير له وما قد يكون بُدِئ تنفيذه الآن: تهجير آخر دفعة من يهود اليمن إلى إسرائيل. كان ما يزال واقفا وسط الغرفة وقد أخبرناه أننا جئنا لمتابعة قضية «ماشا». لم يبد اكتراثا بالأمر (أقصد قضية قتل العيلوم اليهودي الشاب وما تلاها من أحداث). فقط، قال شيئا ينطوي على تقليل من شأن الحادثة ثم سار خطوتين مقتربا من نافذتي الغرفة المتجاورتين. قبل وصوله، كانت زوجة «ماشا» قد أشارت لنا عبر إحدى النافذتين إلى موقع جريمة القتل، الذي لم يكن يبعد أكثر من 10 أمتار عن المنزل. وما أشار القائد الأمني إليه عبر النافذة لم يكن موقع الجريمة، بل شيئا آخر: وادٍ بعيد بدا غنيا بالأشجار والزراعة. قال، متحدثا عن يهود «ريدة»: «معهم وادي كامل.. عرضوا عليهم المواطنين (يقصد المسلمين اليمنيين) يبيعوا بيوتهم ما رضيوا». ثم التفت إلى «ساسان»، قائلا: «تشتي تروح صنعاء جنب أخوتك أصحاب صعدة (يقصد يهود آل سالم الذين هجروا من أرضهم قبل عامين بسبب انتهاكات اتهم فيها الحوثيون)؟». لم يرد الطفل اليهودي، الذي بدا عليه الخوف، بكلمة. بل إن سائله لم ينتظر منه جوابا أصلا. فقد اتجه مغادرا بسرعة. وعند عبوره باب الغرفة إلى الصالة، أطلق سؤالا آخر بصوت مرتفع موجها للجميع: «وين ماشا.. ماشا فين؟». وعلى الفور، صعد صوت مواز في النبرة من بيننا: «عادك مش عارف وين ماشا؟! ماشا في القبر». أثار سؤاله استياء، ولم نتمكن -نحن الذين سمعناه- من التوصل إلى سر ودوافع ذلك السؤال.
قد يكون زلة أو خطأ غير مقصود. لكنه في سياق تصرفات الرجل لا يفهم على هذا النحو، لأن جملة تصرفاته لم تظهر الحد الأدنى من الاكتراث والاحترام لحالة الحداد التي تمر بها أسرة "ماشا". لم تظهر الحد الأدنى من النظر إلى أفراد هذه الأسرة ككيانات بشرية، ناهيك عن النظر إليهم كمواطنين. بل إنه، فوق هذا وذاك، تعمد إظهار أنهم غير مرئيين بالنسبة إليه، أو أنه -في أحسن الأحوال- لا يستطيع رؤيتهم بالعين المجردة. لقد كانت جملة تصرفات نائب مدير أمن «ريدة» عبارة عن جملة من الأخطاء المتعمدة وما من زلات بينها. بل إن الرجل، بحد ذاته، بدا خطأ مقصودا ومتعمدا وفخورا بكونه كذلك.
مثلما أظهر عامدا أنهم غير مرئيين بالنسبة إليه، تعمد إظهار أن قضاياهم ومشاكلهم غير موجودة. في الغرفة الأخرى حيث كانت والدة ووالد «ماشا» يتحدثان إلى الصحفيين، سألته عما إذا كانت إدارته قد تلقت شكاوى من مواطنين يهود حول تعرضهم لانتهاكات خلال الشهر الجاري. رد: «ولا شكوى هذا الشهر». «وفي الشهرين الماضيين بعد مقتل ماشا؟»، سألته. أجاب: «ما فيش«. «طيب والمظاهرة التي هاجمت حي اليهود أواخر ديسمبر الماضي (حدث فيها اعتداءات جسدية على يهود وتحطيم محلات ومنازل يملكونها)؟». رد بما مفاده أن من قام بذلك أطفال.
على أية حال، لم تكن مظاهرة 27 ديسمبر الاعتداء الوحيد الذي تعرض له حي اليهود في «ريدة». قبلها، استهدف تفجير قنبلة يدوية منزل «سعيد إسرائيل» الذي وصل مع أسرته «تل أبيب» الأربعاء الماضي لغرض الإقامة الدائمة في الدولة العبرية. وهناك وقائع شروع في القتل تعرض لها اثنان من أبناء «ماشا»: «ساسان» و«أفرايم». وعدا هذا، تعرض اليهود لجملة من التهديدات بالتصفية الجماعية. لكن كل ذلك غير مرئي بالنسبة إلى نائب مدير أمن «ريدة» كما بالنسبة إلى «الدولة» اليمنية الأمنية بالكامل، دولة الصفقات والحروب بالوكالة. إن وجود مسؤول أمني مثل عبدالله غراب في «ريدة» ليمثل دليلا على وجود استهداف رسمي من قبل «الدولة» الأمنية اليمنية لمواطنيها اليهود.
لقد اعتمدت موجات تهجير اليهود اليمنيين من بلدهم الأصلي إلى إسرائيل، قبيل وبعد قيام الدولة العبرية، على حوافز وصفقات قد نكون نشهد بعضها الآن. قتلة وأمنيون من شاكلة «العبدي» و«غراب» كانوا موجودين في موجات التهجير التي تعرض لها اليهود اليمنيون قبيل قيام إسرائيل عام 1948 وبعد ذلك. عشرات الآلاف من يهود اليمن اقتلعوا من أرضهم بسبب أنظمة حكم من المرتزقة أمثال النظام القائم، أنظمة تقوم بحروب أهلية بالوكالة وتقوم بتهميش وإلغاء واقتلاع فئات يمنية بالكامل وبالوكالة أيضا مقابل مبالغ مالية. ولا يحتاج الأمر إلى عناء: فقط اجعل رؤوس القبيلة والمجتمع المسلم المتخلف واللاأخلاقي تلتفت إلى بيوت وممتلكات اليهود كي يتحقق هدفك. لكن شيئا قد يفوت مدبري أي جريمة تتعلق باقتلاع آخر دفعة من يهود اليمن من أرضهم. القانون الدولي متاح فتحه لأي كان، فردا أو جهة. وحتى لو كانت الوكالة اليهودية متورطة بأي شكل كان في هذه الجريمة، فإن بإمكان أي أسرة يهودية يمنية هجرت من بلدها قسرا أن تقاضي جميع المشتركين في هذه الجريمة.
nabilsobeaMail