للمدن لغتها.. أحزانها... وانتصاراتها.. الجنوب وشوشة الفرح القادم

للمدن لغتها.. أحزانها... وانتصاراتها.. الجنوب وشوشة الفرح القادم - خالد سلمان

< الكتابة مهنة حبرها مداد القلب، تختصم مع العطالة، وتحترب مع التقاعد وترف انكفاء المزاج. مهنة لا تترك الإصبع في خمول والعقل في خمود وتكاسل إلى أن تأزف ساعة الرحيل صوب السماء.
< لهذا أعاود تجسير ما انقطع. وبأكف مرتعشة أكتب عن زمن انكسار الأحلام وانتحار الأماني العظيمة؛ عن وطن غادرنا، إلى غير رجعة، من تباب الروح الخضراء إلى صحارى الكاكي والقصر الرئاسي، المزين بأوامر ضرب النار وسلطة المدفعية الثقيلة؛ وطن يتسرب من شقوق التمنيات.. يبحث مسيرته الليلية صوب ضياح السقوط إلى ما دون قاع الفجيعة والموت اليومي الرتيب.
< الحاكم يلبس ضحاياه.. يتهندم بقتلاه.. يشد عوده المقصوف تحضرا لنشرة العاشرة.. يرشف آهات البلاد جرعة جرعة، قبيل نحنحة الخطابة وتلاوة بيان "حالة الاتحاد" المخوزق بمسامير الوطن المعافى والوحدة المصانة.. وحدة الأرق السرية والثروة المهربة وعافية القصر الرمادي وكارتيلات البارود والعقار.
الحاكم يتوسد قدره المفتوح على البقاء محفوفا بالزعامة، معصوبا بجنون الحرب حتى آخر رجل سواه.. آخر شهقات الأجنة القادمة.. الحاكم يربط على خاصرته طبول الحرب حتى آخر يرسم للشعب مجسم السير الصامت السعيد، في رحلة المشنقة وشاهدة وأد بلاد.
حرب في الجنوب.. دماء في صعدة.. أفق مسدود بغبن وجوع وانتحارات الرغيف.. ولا شيء يثنيه الحاكم الذي لم يعد عرزا.. عن لملمة أشتات جثمانه.. نفض ياقة جثته ودعوة معارضيه لحوار بعث الموتى وبث الحياة في شرايين الأنظمة الساقطة.
في الجنوب يقظة أنضجتها نيران القمع والقهر وجمر المظالم.. أوصد الحاكم رتاج الحل.. سد في وجه الاحتقان منافذ محابس التنفيس.. فتح الجميع على بحار رعونته الماحلة، وزع بطائق الدعوة في ليلة شرب المآقي وحفلات الإعدام.. ماح البحر والحدقات حتى الصباح.
الآن موسم هبوب الرياح الجنوبية الساخنة يحاصر انعزالية القصر.. يتخلل مسامات جره المنقوش.. يأكل قلب صلابته الصنمية.. وتعلن جنوبية الرياح كم هو ورقي هذا القصر! كم هو رملي في وجه موجة مد بحار الجموع الغابة!...
أزفت ساعة الاقتلاع.. كبرت عن التطويع والترويع والمراوحة.. ليس بمقدور هبات الرياح الجنوبية إعادة التموضع في مربع وطن منهوب مصادر حتى العظم.. ليس بمقدور الأرتال الحربية للحاكم وخطط الميدان وعواء المذياع ورعب السياسة ردم فوهة الانفجار.. بخرقة علم بالٍ وشعار كذاب غشوم.
موسم الرياح الجنوبية يكتب شهادة ميلاد العاصفة.. يصدر مرسومها.. تاركا لحواضن كل الجهات إما أن يعمد بهباتها كل الوطن، وإما أن تعلن الرياح الجنوبية دولتها المستقلة تاركا للطبقة السياسية، بلا تلكؤ، حسن الخيار.
للمدن لغتها.. ولمذاق الدم منصات اطْلاق ووقود طائرة.. لكل مدن الجنوب أبجديتها.. شهداؤها. ولها لغتها المتحررة من ثقالات الحزن ومذاق انكسارات الهزيمة.. هي الآن تغني أناشيدها، تطلق أسراب حمامها خارج فضاء الخيبة.. في نسخ تيار الحياة. الحاكم الذي لم يعد عرزا.. يتوسل الحوار وشماعات الانفصال.. التوحد مع الحاكم بصفته تاريخا.. والانفصال عن تابوته شرف جدير بالاعتداد.. دونه بطولات وتضحيات الرجال.
للمدن لغتها.. أحزانها.. انتصاراتها. وللجنوب وشوشة الفرح.. إسقاط النظام، كل النظام.. وإما دولته المستقلة.
هل ننظِّر للانفصال؟ قطعا لا!
هل ننكر حجمه وهول وجع الشمال؟ قطعا لا!
هل نرجىء.. نؤجل.. نرحّل الحراك.. نشد وثاقه بخيوط الرهان على مخرجات حوار مع حكم متصدع.. حكم نمنحه بالمطارحة السياسية.. مخلب خمش وخدش تمزيق وطن وإفناء حياة؟
أسئلة هي برسم أطياف الساسة.. وما زال في الوقت بقية.. وفي القاطرة للجميع متسع.
ولا خيار بين حق الناس الانفصال.. وبين الخروج بملء القول وعنفوان الإرادة عن الحاكم الضال الفاسد المستبد.. وإعلان سلمية الانتفاضة في كل الخارطة.. بين الاثنين لا مجال للمراوحة.. لا مكان للنوح على وحدة هي مِزق لحم تحت أضراس الحاكم... وهي في الوجدان صدارة في قائمة أحلامنا المؤجلة.
لا مجال! إما تثوير محافظات الشمال، وإما خطوة إلى الأمام.. خطوتان للخلف.. وإما بلاد مشدودة بكلكلها للخلف.. وفي قادم أفقها لا أمام (!!).
[email protected]