الوقوف على حافة عالم حر

الوقوف على حافة عالم حر - إلهام الوجيه

الوقوف على حافة عالم حر - إلهام الوجيه

* إلى الصديق الذي رحل أسرع مما كنت أتوقع من دون أن يشرح الأسباب أو أن يقول وداعا؛ إلى من عاتبته السنوات الماضية لغيابه المفاجئ عنا واستطعت أخيرا أن أسامحه... إلى "أحمد المنصور"
قال لي القبار: منذ متى غادر؟ يقصدك أنت. قلت له: منذ ثمانية أعوام. رد متفهما لحزني: ما زال حديث الموت!
لم يقل ما كنت أنتظره من كلمات تواسيني، لم يقل إن رحيق حياتك قد سُلب قبل أوانه؛ وكأنما هو يعرف أن رحيقها كان قد نضب ولا مجال لمقاومة هذه الحقيقة. وبهذا الإيمان الذي وضعه الرجل في قلبي، دون قصد منه، وضعت قدمي هناك، لأول مرة، في زيارة لك.
<<<
منازل هنا وهناك, رأيتها قبورا؛ ولا علاقة هنا للقبر بالسرية، وإنما بالموت. صدور الناس باتت هي كذلك قبورا تدفن الأحلام والأشواق والخوف والبكاء. جثث ملقاة في طرقات الحياة. فالجميع يبحث عن حفرة ولا يبحث عن سماء!
سائق التاكسي الذي أوصلني إلى المقبرة ميت، مصفرّ، لا حياة فيه... فر هاربا من زوجة أبيه، منذ كان في الخامسة عشرة من عمره، إلى أحضان الشارع؛ فكان الموت بانتظاره. صديقتي التي ودعتها وهي تحيا كجثه متعفنة، مع زوج لا يعرف عن المرأة إلا أنها بضع متاع ووعاء للإنجاب...
العديد من الجثث والكثير من رائحة الموت كنت قد أيقنت بوجودها قبل بلوغي باب مقبرة تتربع في قلب العاصمة، في قلب الحياة؛ ورأيتها، في لحظات المكاشفة، حياة تتربع في قلب الموت!!
لم تكن زيارتي لتك المقبرة مفاجأة لي، كونها لا تحمل سببا محددا, وإن كانت قد فاجأت صديقتي التي أنهيت عزومتها لي على غداء بارد، مبلل بدموعها، ومتخم بصبرها!! مستأذنة لها حيث أبعد مكان عنها وعما تسميه حياتها! فلم تجد خطواتي مكانا أبعد، سوى مساحة محددة محاطة بسور يعزلها أو يعطيها خصوصية معينة، وربما يحميها ممن هم خارجها, كنت قد مررت بجانبها آلاف المرات، أحيانا فزعة منها ومما تحتضنه بداخلها، وأخرى مترنحة سعادة لا أرى فيها سوى نهاية لسعادتي تلك! وأراها اليوم هدوءا أنا بحاجة ماسة إليه، مكانا ممتلئا بالحركة، ورغم امتلائه لا يتزاحم ساكنوه أبدا، فكل جسد يبلى ويمتصه التراب، يفسح مكانه لآخر. وكل اختلاف أو تضاد لا يتحول إلى معركة، وإنما يختفي خلف حقيقة واحدة: نهاية الاختلاف واحدة. وسؤال يسخرون به منا: وماذا إن اختلفنا؟!! هل سيغير ذلك من هدوئنا الآن؟ هكذا ببساطة ودونما ضيق أو نفور!!
زيارة حافلة بالأفكار المدهشة لمن يهوى تفاصيل الحياة ويعشق أدق أمورها، يصنع منها هالة من الألوان اللامرئية، وعبقا من التنوع والتجدد والرغبة في الاستمرار.
زيارة امتدت طويلا, أطول مما كنت أتوقع، لتصبح ثلاث ساعات متواصلة من الانتقال، من قبر إلى آخر، ومن حكاية إلى أخرى، ومن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت...
مقابر متناثرة، وأشلاء مختلطة، وبقايا ذكريات غابرة ما زال القبار يفخر بتذكره لها، وأن كان ذلك بعد فترة من حك رأسه، واستدعاء العديد من الأسماء المتشابهة!!
نمل موغل في قدمه وحضارته، وعشب ينمو هنا قليلا على قبر ما، وعلى قبر آخر أكليل يطوقه. وهناك لا شيء سوى العراء، وربما شجيرات الشوك المتشابكة تشعرك بالوحشة، وقد تشعرك -كما أشعرتني- بأن الحياة تظهر حتى وإن كان الموت هو المحيط بك!
الموت كرياح المقبرة: بارد، أقوى منك ومني ومن الحياة ذاتها، اقتلعت أطفالا من أحضان ذويهم، وآباء من بين أطفالهم، وكبارا وصغارا ونساء ورجالا، دونما تفاضل أو استثناء...
هو الموت –إذن- ما غمرني بلطفه تلك الساعات دونما قوة سوى قوة حضوره، ودونما حقيقة سوى حقيقة وجوده...
من يعرف الحياة عليه أن يعرف الموت، ومن يعرف الموت لا بد وأن يكون قد عرف الحياة. ولكن ما يحيرني حقا هو ذلك الخوف الساذج من حالة الانتقال من موت إلى آخر, وكأن الفرق يعني الكثير بين أن تكون ميتا على سطح الأرض أو مدفونا في أعماقها. أعلم أنك على السطح ما زلت تمتلك الخيار؛ ولكن أليس انعدام الخيارات قبرا ضيقا كما هو في المقبرة؟ ربما هي تلك الحكمة الخفية التي لم أعلمها حتى اليوم، بين أن تموت مرتين أو أن تحيا مرتين!! ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
عالم الأموات في المقبرة أكثر وضوحا من عالم الأموات في خارجها، حيث لا نفهم أن الأشياء ليست هي الأشياء، بينما الراقدون بين ترابها أدركوا تماما ألاَّ جدوى من كل تلك الهرولة واللهاث المسعور خلف سراب ما نراه وليس ما هو عليه في الحقيقة!!
ما إن وضعت قدمي بداخل المقبرة حتى تلقيت التحية من أرواح لا يقيدها شيء. محرومون من تلك المتعة أولئك الحبيسون لأجسادهم وعقولهم. أظن الحياة كالموت، ولا أدري أيهما يشبه الآخر أكثر..!!
ما حولي كان مغمورا بالحياة وباذخا في العطاء، على عكس الخارج!! استوقفني قبر الحاج والحاجة (...)، توفيا في الليلة نفسها!! هل من الضرورة أن نموت مع من نحب، أم هو ذاك العقد الذي لا يفسخ، يصبح عهدا غليظا من الصعب نقضه حتى بالموت؟
تذكرت صديقتي.. ترى هل ستموت مع زوجها في يوم واحد، أم أنها ستكون البادئة كما عودته دائما؟
قبر آخر لشقيقتين لا يفرق بينهما سوى عامين اثنين من البعد لا غير، لا بد وأنهما تتحدثان الآن عن ذينك العامين الفارقين، وعن فراق لم يطيقا عليه صبرا، فلحقت إحداهما الأخرى. هل الموت قرار منا، أم قدر لا حول ولا قوة لنا فيه؟
شدتني زائرة عاكفة على الحديث المتواصل، بكل رقة وحب، مع أحد الراقدين هناك؛ تتحدث للحظات لتتوقف مثلها، وكأنها تسمع ردا حول ما لم تسمح لهما الحياة بقوله لبعضهما, تنثر رياحينها حول قبره بدلا من قبلات كانت تنتظر يوما لتنثرها عليه... قالت لي على استحياء: لقد أحبته أكثر من هذا العالم. ولكنه غادرها وتركها لذلك العالم، الذي كانت على استعداد للتخلي عنه لأجله!! تركها على حين غره بينما ما زال لديها الكثير لتقوله ولتقدمه له! كان حديث الموت، وما زالت ذاكرتها مفعمة به. كانت تؤكد لي أنها لن تنساه أبدا، حتى وإن أحبت رجلا آخر. هل النسيان من عدمه فعل أرادي؟ أم هو حقيقة كونية لا بد منها؟!
قبر آخر يشير إليك بيده ما إن تدخل إلى تلك الأرض القاحلة بتفرده، وكأنه جنة خضراء، لا شيء يظهر منه سوى الشاهدة والخضرة الكاسحة. وبجانبه قبر عارٍ حتى من اكتمال اسم من يرقد تحته! ترى أيهما هو الأحسن حالا؟ "الخضرة ليست سترا ولا تعبر بالضرورة عما يحدث في الخفاء. والعري ليس هو القبح والإثم دائما".
ومثلما استوقفني كل شيء يبدو ميتا، استوقفت بوجهي السافر مجموعة من الزائرات، علمت فيما بعد أنهن في "رحلة جماعية للمقبرة" لأجل الدعاء ولتذكر الموت، وفي نهاية المطاف لأمل كبير لديهن في الحصول ولو قليلا على أجر يقيهن عذاب ما تحت التراب!! وكأنّ عذاب ما فوق التراب ليس كافيا أو غير مرئي.
تطوعت إحداهن، وبكل رهبة المكان وسطوته، ومن بين دموعها الصامتة، ونصحتني، بكل تأثر، أن أغطي وجهي باللثام؛ فذلك أفضل لي "من الدنيا وما فيها"! ولتكن لي عبرة من السابقات الراقدات هناك؛ متأكدة أن المكان الذي نحن فيه سيلين قلبي بلا شك ويجعلني قابلة لـ"الهداية".
كنت وقتها أشاركها البكاء "علينا جميعا"، وأتخيل ضحكة ساخرة تطلقها الراقدات هناك "علينا جميعا". فاكتفيت بإيماءة من رأسي أشاركها البكاء وأخالفها الأسباب واتجاه العودة!!