صراع السيطرة

صراع السيطرة - أحمد الزرقة

احتفى المتقاعدون العسكريون قبل أيام مضت بالذكرى السنوية الأولى لبدئهم مسيرتهم الاحتجاجية السلمية، التي تعددت فيها أساليب تعبيرهم إزاء واقع فرض عليهم إلى حد كبير، أسهم في تفاقمه الإهمال المتعمد واستخدام السلطة سياسة الإسقاط القسري المنظم، وإن من قبل البعض، مقابل غض الطرف من البعض الآخر، ولم يتوقع أحد أن تتطور الأصوات المحتجة التي كانت متناثرة في بقاع متعددة من الجسم اليمني لتتجمع ضمن كيان جديد غير مألوف في الحياة السياسية اليمنية، وكان لالتقاء خصوم الأمس وتشكيلهم كياناً جديداً ذا طبيعة إقصائية متوارثة - من تاريخ الصراع المر والدامي الذي عاشته كثير من مناطق اليمن تحت تأثير نخب دموية سلبت من اليمن حيويته وهويته وذاته اليمنية – ذلك الكيان يحسبه الكثيرون رخواً هلامياً، لكن عند محاولة الاقتراب منه سيثبت أن له قدرة عجيبة على التحرك والتجانس، ظهرت فيه رغبة واضحة للخروج من بوتقة القيادة الفردية والانطلاق نحو مزايا القيادة الجماعية التي تعطي لجميع الأفراد حضوراً متوازيا وتربك الجهات المراقبة نظرا لعدم وجود رأس واضح ومحدد يقود ذلك الكيان، وبالتالي تصبح عملية إحباطه والسيطرة عليه خارج إطار الممكن، مما أصاب منظومة الحكم بارتباك في تحديد ملامح واضحة للتعامل مع تلك الحركة الاحتجاجية التي امتدت أذرعها بشكل واسع وتنوعت وسائله باختلاف المناطق التي نفذ فيها فعالياته، ومن الواضح أن المتقاعدين استخدموا سقف خطاب مرتفعاً جدا بغية الحصول على استثارة غضب السلطة - في البداية على الأقل - ودفعها للقيام بأعمال مجنونة وعنيفة، من شأنها إكسابهم حضورا واسعا مبنياً على التعاطف وكسب التأييد محليا وخارجيا، وبناء قاعدة جماهيرية واسعة في المحافظات الجنوبية على وجه التحديد، لأن المحافظات الشمالية بحسب تعبيرات العديد من القيادات في حركة المتقاعدين تلك، مشاكلها أخرى، وعلى أبنائها التحرك في إطار منفصل لايلتقي مع حركتهم نهائيا، وذهبوا أبعد من ذلك عندما اعتبروا أن أبناء المحافظات الشمالية هم جزء من مشكلتهم، وبالتالي لن يصبحوا جزءاً من الحل، وكانت مسألة رفع الشعارات المناطقية والانفصالية ورفع صور قيادات الحزب الاشتراكي التاريخية مع استثناء القيادات الشمالية (كما حدث عندما تم شطب صورة عبدالفتاح إسماعيل من الصور التي رفعت للرؤساء الذين حكموا الجنوب قبل إعادة تحقيق الوحدة) بالإضافة لرفع علم ما كان يعرف بـ"ج. ي. د. ش"، هي تعبير كلي عن رفضهم لأي وجود نفسي أو معنوي لكل ما يأتي من أبناء المحافظات الشمالية، باعتبار أنهم شر يجب تفاديه، على الرغم من أن معظم الكتابات والكتاب والصحف التي أبرزت مطالبهم ورفعت سقف خطابهم ومطالبهم وصنعت رموزاً للحركة هم عملياً من أبناء المحافظات الشمالية والذين تحمسوا لقضيتهم لدوافع مختلفة مدفوعين برغبات مهنية وأخرى سياسية دونما مراعاة لأية قواعد، وظهر جلياً أن للصحافة دوراً حاسماً في قولبة الرأي العام الداخلي والخارجي نحو قضية المحافظات الجنوبية، وخلال عام كامل فرضت أحداث تلك المحافظات إيقاعاتها على الصحف ومستوى توزيعها، وغابت معظم المحافظات اليمنية والقضايا العامة عن تناولات الصحافة. ومن الناحية الجغرافية كانت مساحات الأحداث في نطاق محافظتي لحج والضالع وفي بعض الأحيان عدن أبرزت أن هناك قصوراً في أداء الصحافة باعتبارها الصوت المعبر عن المواطن بشكل عام، وغابت المظالم التي يتعرض لها الناس في مختلف المحافظات الأخرى.
وعلى الرغم من أن البدايات الأولى لتلك الحركة كانت تقول على لسان قادتها "إنها حركة حقوقية وليست سياسية"، إلا أنها بعد ذلك رفعت شعارات سياسية وأصبحت تطالب بحق تقرير المصير، والعودة لما قبل 1990، وشككت في مشروعية قيام الوحدة لأنها قامت دونما استفتاء عليها.
وقد اتخذت الفعاليات الاحتجاجية للمتقاعدين منحى تصاعدياً أبرز ملامحه استمرار الفعاليات وتنوعها مكانياً وزمانياً (الضالع – ردفان – عدن – المكلا)، وحاولت استحضار شتى المناسبات الوطنية وتواريخ الصراعات السياسية من أجل ربط الأحداث الحالية بما كان سابقاً. وتميزت تلك الفعاليات بالتنظيم الشديد المبني على قدرة فائقة على الحشد والتبليغ، وتنوعت أماكن إقامة الفعاليات بما أوحى بأن هناك تزايدا لقدرة المحتجين ونجاحا في تكتيكاتهم في حشد الأنصار والمؤيدين، وظهر أن للحركة الاحتجاجية آليات تواصل وحشد غير معهودة، وكان واضحا أن هناك استفادة حقيقية وواضحة من قدرات وإمكانيات غير محددة أو معروفة أنتجتها الممارسات السيئة والخاطئة للسلطة منذ ما قبل حرب 1994، حيث أدت تلك الممارسات التي فشل الحزب الحاكم في معالجتها وحلحلتها إلى تزايد أعداد الساخطين ضده، وبالتالي تحالفهم لإسقاطه أو إحراجه على الأقل، ومما سيؤدي في أسوأ الحالات لإعادة اللاعبين ضده الى مربعات سابقة. ولأول مرة يخرج الفعل السياسي في المحافظات الجنوبية على الأقل من عباءة الحزب الاشتراكي، وإن كانت العديد من قيادات حركة المتقاعدين او غالبيتها هي من قيادات الحزب الاشتراكي الساخطة على ما تعتبره تخلي الحزب عن القضية الجنوبية، وانصرافه عن تبني ملف إعادة مسار الوحدة ومعالجة آثار حرب صيف عام 1994، وكان في ذلك إشارة واضحة الى أن هناك أزمة حادة ستعصف بالحزب الاشتراكي اليمني شريك الوحدة. ويبدو أن إضعاف الحزب الاشتراكي كان هدفا للسلطة، لكنه خاطئ هذه المرة على الأقل، وكان هناك تواطؤ من الأحزاب الأخرى التي كانت تمني النفس بوراثته في المحافظات الجنوبية، لكن الإرث لم يكن سهلا وليس واقعيا بالحسابات الجيوسياسية ، وكان أشبه ما يكون بعبوة مؤقتة قابلة للانفجار حذر منها الحزب الاشتراكي خلال مؤتمره العام الخامس عندما اعتبر أن اتجاه السلطة لدعم المشاريع الصغيرة داخل الحزب، والتي تدعي حق تمثيل أبناء الجنوب، وأن سيطرة تلك المشاريع وسطوتها هي خطر حقيقي يتهدد الوحدة اليمنية. لكن استجابة السلطة لتلك التحذيرات كانت منعدمة تماماً.
اللقاء المشترك اللاعب الثاني في الساحة السياسية، كان يرى في تلك الفعاليات التي ارتفعت وتيرتها بعد الانتخابات الرئاسية في سبتمبر 2006، وعلى لسان عدد من قياداته، أن ما يحدث في المحافظات الجنوبية رد فعل طبيعي على ممارسات السلطة، ولم تسعَ لدراسة تلك الاحتجاجات بشكل جدي، مؤملة أنها ستستفيد من حالة السخط تلك في فرض شروط جديدة للتفاوض مع السلطة والرئيس صالح الذي رفضت الاعتراف بمشروعية فوزه مفضلة التعامل مع ذلك الفوز من باب فقه الأمر الواقع. وكان لفوز مرشحي المشترك في معظم مقاعد المجلس المحلي في محافظة الضالع فعل السحر في أن حالات من السخط ضد سياسات الحزب الحاكم ستتزايد، وأنه ما دام الناخب الساخط سيصوت لصالح المشترك فلا يهم الشعار أو المطالب التي يرفعها، لأنه لن يختار في انتخابات البرلمان القادم غير المشترك، وبهذا يكون قد استطاع كسب ثمار لم يبذل جهودا حقيقية في زراعتها، وإنما كان قاطفا ثمرتها، وهذا ما جعل الناطق الرسمي للقاء المشترك وقتها يقول "إن ما يحصل في المحافظات الجنوبية هو نتاج طبيعي لسياسات السلطة وأن المشترك لن يلعب دور الإطفائي في المحافظات الجنوبية". حينها كان المشترك مؤمناً بقدرته على النزول للشارع والسيطرة على الجماهير وتسخيرها لصالحه، وكان يعتبر ما يحدث جزءاً من مشروعه المسمى بالنضال السلمي الذي دشنه الإصلاح بشراكة محدودة مع بقية أحزاب اللقاء المشترك، وكان يحاول بمناورته تلك تحقيق مكاسب سياسية وادعاء الوصاية على الحركة في الميدان التي منحها بركاته ومساندته السياسية باعتبارها حقا كفله الدستور. لكن المفارقة حدثت عندما أراد المشترك النزول للشارع والمشاركة في الفعاليات الاحتجاجية، تم رفضه ومقاطعة الفعاليات التي يدعو إليها، بل وتعرضت قيادته لاعتداءات من قبل المنتمين لحركة المتقاعدين كما حدث في ردفان أولاً والضالع تالياً.
وعلى الرغم من أن قيادات حزبية من اللقاء المشترك ركبت موجة المطالب التي نادت بها حركة المتقاعدين، بل إن قيادات التجمع اليمني للإصلاح في محافظتي عدن وحضرموت تبنت خطاباً سلبياً متشنجاً، في ما يخص قضية الوحدة، وبدا وكأن الطرفين في ساحة للمزادات والتسابق على تحطيم أرقام قياسية في سقف الخطاب السياسي الذي كانت الوحدة تعد فيه سقفاً أعلى، تلك التصريحات جعلت القائم بأعمال رئاسة الإصلاح يتدخل ليعلن أن الوحدة خط أحمر وأن الإصلاحيين سيقاتلون من أجل الحفاظ عليها، مستحضراً تجربة حزبه عام 1994.
وقد أدى استخدام المتقاعدين تكتيك الاستمرار في تنظيم الفعاليات الاحتجاجية والإعلان المتكرر عنها وتعمد الأطراف المشاركة فيها استفزاز النظام بالشعارات والخطابات المحرضة بغية انفلات السيطرة على الأمور بهدف إلحاق الضرر الجسدي المادي والنفسي بالمعتصمين، مما يكسبهم تعاطف أكبر شريحة من المجتمعات المحلية، وقد تؤدي تلك الإصابات الى كسب الأطراف الخارجية وتعاطف منظمات حقوق الإنسان، وقد أدت مجمل تلك الأحداث لسقوط تسعة قتلى وتسعة وثلاثين جريحا إلى ما قبل احتجاجات العاطلين عن العمل.
ولأن حركة الاحتجاجات السلمية تلك كانت بمثابة تكريس لثقافة جديدة لم يعتدها المجتمع بسبب استمراريتها ودلالاتها السياسية كونها تعبر عن شريحة واسعة تعرضت لإقصاء قسري نتيجة لحدث سياسي، فقد اكتسبت تعاطفاً جماهيرياً واسعاً في أنحاء واسعة من اليمن، لكن يبدو أن ذلك التعاطف لم يرق كثيرا للمتقاعدين وقوبل باستخدامهم سقف خطاب إقصائي مرتفعاً، ومحاولة الوصاية على كافة أبناء المحافظات الجنوبية، واعتبار أية أصوات مخالفة لموقفهم ذلك من أذناب السلطة والنظام، إلى التأثير على الأصوات المعتدلة أو المخالفة وتحييدها، مستندين على أخطاء السلطة والمعارضة في تبني رؤى واضحة وشفافة لمعالجة ووقف تلك التداعيات، وفي لحظة ما غاب حزب الوحدة العريض ولم يعد هناك صوت وحدوي قادر على التحدث في تلك المناطق.
alzorqa