قراءة خاطئة وقرار خاطئ

قراءة خاطئة وقرار خاطئ - محمد عبدالملك المتوكل

لكي يجد مبرراً لضرب معارضي شاه إيران فجر السافاك السينما على رؤوس المشاهدين متهماً المعارضة بذلك. ومنذ ذلك الحين وأجهزة المخابرات في العالم تمارس الأسلوب نفسه حين تريد استخدام العنف.
والحكام لا يلجأون إلى استخدام العنف ضد مواطنيهم إلا في حالات ثلاث:
1 - حالة العجز عن الحوار وعن القبول بمتطلباته.
2 - حالة الغرور والكبرياء التي تعمى الحكام عن تدبر العواقب وبشكل خاص حين يقعون ضحية قراءة خاطئة للأمور وبتشجيع ودفع من الانتهازيين والجهلة والمتآمرين على النظام.
3 - حالة اليأس والشعور بالضعف التي تدفع إلى المغامرة غير المحسوبة وتستدعي المقولة الشمشونية «عليَّ وعلى أعدائي يا رب».
الاعتقالات التي تجري في جنوب الوطن ونزول الدبابات إلى شوارع مدنه- تماماً كحرب صعدة- ليست إلا نتاجاً لواحدة أو أكثر من الحالات الثلاث السابقة.
لم يعد الحكام بعد هذه المدة من الحكم المطلق بقادرين على التنازل عن القرار الفردي أو عن الاحتكار الكلي للثروة والسلطة وهي متطلبات الحوار في هذه المرحلة. وتداعي الأوضاع وتصاعد المشاكل تجعل النظام يدخل مرحلة الإحساس بالضعف وعدم القدرة على السيطرة فيستنفر الكبرياء والعزة بالإثم فيتجه إلى سيف المعز، وساعتها تحين الفرصة للإنتهازيين والجهلة والمتآمرين. وكما استدعوا الامامة والعنصرية السلالية والمذهبية والإرهاب في حرب صعدة ونفخوا في غرور وعنجهية صناع القرار وبسطوا الأمر لهم، يقومون اليوم بالأمر نفسه بالنسبة للجنوب وها هم يستدعون الانفصالية، والاشتراكية، والظلامية والانجليز، كما جاء في حديث البركاني في «الجزيرة»، ويقدمون لصانعي القرار قراءة ساذجة وهي أن أبناء الجنوب تعودوا على «الصميل» فقد حكمهم الانجليز بالحديد والنار وحكمهم الاشتراكي والجبهة القومية بالقوة والعنف ولم يرتفع لهم صوت، وأنتم جئتم لهم بالديمقراطية والحرية وهذه هي النتائج. الآن أروهم العين الحمراء وشربوهم من البحر باختيارهم أو غصباً عنهم وسترون أنهم بعد ذلك سوف يسيرون على العجين دون أن يلخبطوه. وعلى ضوء هذه القراءة الخاطئة لتاريخ الجنوب اتخذت السلطة القرار الخاطئ باستخدام العنف واعتقال قيادات العمل السياسي والاجتماعي واختطاف الفنان الشعبي المبدع فهد القرني ولم يكن ما حدث من شغب سوى إخراج للقرار. وإلا ما المبرر لاعتقالات لا خل لأصحابها في شغب الحبيلين إلا إذا كان من باب «قصدك من عُذر».
القراءة لتاريخ الجنوب- التي لم يقلها المتآمرون- هي أن بريطانيا لم تحكم الجنوب وإنما أقامت معهم إتفاقيات حماية وكانت تدفع أتاوات للسلاطين الحاكمين من خزينة التاج البريطاني.. ولم تكن تتدخل في شؤونهم الداخلية وذلك مقابل احتفاظها بعدن. ولم يكن حينها للجنوب ثروة مستخرجة يتفيدها الانجليز ما عدا ما يدره ميناء عدن من مصالح تجارية وموقع استراتيجي. وكان الجيش الليوي من أبناء الجنوب ونادراً ما استخدم ضد أبناء الجنوب. ومع كل ذلك حين قرر أبناء الجنوب إخراج بريطانيا العظمى أخرجوها خلال سنوات قليلة من الكفاح المسلح.
وحين جاءت الجبهة القومية والحزب الاشتراكي بعد ذلك، رغم الأخطاء التي ارتكبوها نحو عدد من الفئات ورغم احتكارهم السلطة للحزب إلا أنهم انتموا إلى الاغلبية المحرومة، ولم يفرضوا على المحافظات عاملين أو موظفين من خارجها في أغلب الأحوال، وكانوا يحترمون القوانين التي يصدرونها ويلتزمون بها وينفذونها على الصغير والكبير دونما تمييز، واحتفظت قياداتهم إلى حد كبير ببساطتها وتواضعها ونزاهتها. كنت تلقى رئيسهم في الشوارع والمطاعم لا حراس ولا مواكب، واحتفظوا بشيء من النظام الاداري الذي خلفه الانجليز ووفروا للناس الحد الأدنى من العيش والتعليم والصحة والأمان والعمل.. ومع ذلك لم يسمح أبناء الجنوب بهيمنة الفرد وظل الحكم جماعياً داخل الحزب، ولعله الحزب الشمولي الوحيد في الدول النامية الذي لم يقبل بتحكم الفرد في القرار.
وللاستدلال على مقارنة أبناء الجنوب بين حكم ما قبل الوحدة في الجنوب وما بعدها وفي المرحلة المبكرة من قيام الوحدة.. في أواخر عام 1992 قمت برحلة إلى يافع بصحبة الأخ عبدالرحمن الجفري شفاه الله، وضيافة الأخ سالم صالح رعاه الله. وكانت مناسبة احتفالات العيد حيث يقوم أهل المنطقة بزيارة الأولياء ويأتون زرافات ولكل مجموعة أهازيجها وأشعارها، وقد استرعى انتباهي مجموعة قالت في أحد أبيات شعرها ما معناه: «فرحنا بالوحدة لكن ما شفنا إلا وجهها النكيد». أمسكت بأحدهم وسألته هل حكم الاشتراكي كان أفضل من الآن، قال: كانت فلوسنا قليلة لكن كانت تكفينا، اليوم زادت الفلوس ولكنها لا تغطي احتياجاتنا.. كنا آمنين لا نخاف على أنفسنا ولا على بيوتنا ولا على سياراتنا، اليوم فقدنا الأمان. كما كنا نروح إلى مرفق حكومي، ما هو لك حسب القانون تأخذه بكل سهولة، اليوم حقك ما تلقاه، تسير وتجي واذا لم تدفع رشوة ما تلقى شيء.. كان لدينا ثارات وقتال قضى الحزب عليها كلها والذي له حق يقدم شكواه إلى أقرب مرفق حكومي والدولة تأخذ بحقه، اليوم نشوف الدنيا ترتبش.. قلت له: ما رأيك نفك وكل واحد يرجع مكانه؟ قال: لا ما بانفك، الوحدة حقنا واذا ما با يصلحوا بانطلع إلى صنعاء نصلحهم. قلت له: بارك الله فيك وزاد الرجال من أمثالك.
هذا رأي أبناء الجنوب في السنوات الاولى للوحدة وفي المرحلة الانتقالية فكيف تتصور مشاعرهم بعد حرب الصراع على السلطة 1994، وبعد أن جاء المتنفذون يحملون ثقافة الفيد وروح الانتقام لمعارك ما قبل الوحدة علماً بأن من قاتل من أجل الوحدة هم الجنوبيون سواء بالسلاح أو باتخاذ موقف سلبي من الانفصال، وهم قاموا بذلك لا حباً في نظام ينتهك حقوقهم وإنما حباً في وحدة تصنع الخير والرفاه لكل مواطنيها في ظل الحرية والشراكة في السلطة والثروة والمواطنة المتساوية.
لا تخطئوا القراءة لتاريخ الجنوب وتاريخ رجاله ونسائه واستعيدوا التجارب الوحدوية التاريخية وأسباب فشلها.. ولا شك أن دولة قطر غير مستعدة أن تشتغل فريق مطافي لحرائق نشعلها بفعل الغرور والجهل والإصرار على احتكار السلطة والثروة.
ظهور عبدربه في التلفزيون، وباجمال في الصحف، ومجور في الحفلات، ليس كافياً ولا مقنعاً فمسرح العرائس لم يعد مقنعاً لا للجنوب ولا للشمال. أوقفوا العنف واطلقوا السجناء وقدموا ما يقنع الناس التي فقدت الثقة وملت من الفهلوة. وصدق الله القائل: «وإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصبهم ببعض ذنوبهم».
8/4/2008
> ملحوظة: نبارك لوزارة الاعلام التي افتتحت 12 محطة فضائية وأغلقت صحيفة "الوسط"... وانعم والديمقراطية.