استعادة الوحدة.. ؟

استعادة الوحدة..؟ - أبوبكر السقاف

ينادي بعض الساسة باستعادة الوحدة، أي استعادة وحدة 22 أيار/ مايو، وبذلك سنتقدم من حقبة سياسية جديدة، تلغي كل أوضار واقع اليوم، الذي ترفضه كل جهات العقل والروح، مع أن هذا الواقع قد أظهر أن المتقدم 22/5 قد كشفت الممارسة السياسية أنه كان مليئاً بالفجوات والثقوب القاتلة. وتقديمه اليوم كما لو كان غاية الأماني إنما هو استهواء ذاتي يلازم أصحابه حتى بعد أن تبين لهم بالتجربة العلقم أنه شديد القسوة حتى الموت.
وبذلك يعود بعضنا إلى معنى راسخ في لغتنا أن المتقدم هو الماضي وهو المتأخر في منطق التطور. ومن مستبطنات الوعي العميق أن العصر الذهبي وراءنا، والزمان تقهقر مستمر، والقداسة هي التي تضفى دائماً على نقطة البدء، في ما يمكن أن يوصف بأنه عبادة البدايات . ونجده ماثلا في غير ثقافة. ويقوم الوعي التاريخي بتجاوزها بوساطة وعي نقدي.
إن من يريد استعادة الوحدة، التي تؤكد كل الوقائع أنها لم تكن، أو كما كان أحد الزملاء يقول إنها تمت ولم تتحقق أو تنجز، إنما يتمسك بدور له ماضٍ، ويريد بسطه على المستقبل، بعد أن تغيرت كل معادلات السياسة، وقواعد اللعبة. فالصيرورة السياسية، المجتمعة خلقت أطرافاً وشركاء عديدين وغيرت البيئة السياسية بمجملها* عندما قال هيراقليطس: «إنك لا تنزل النهر مرتين، لأنها المياه الجديدة تتدفق باستمرار». فهو إذا مثل «الشمس كل يوم جديدة». بيد أن الحنين إلى الماضي شيمة بشرية أصيلة. وإذا لم نوافق فرويد في تشاؤمه بأن هذا في جوهره حنين إلى رحم الأم، أي إلى انتقاء مبدأ الواقع، الذي يقمع مبدأ اللذة، فإنه لا شك يمثل توقاً إلى سكينة مفقودة وإرادة جارفة للتخلص من كدر الواقع وقلقه.
ثم أن هذه الاستعادة من أفق ماضٍ قريب ليست بعيدة بل لعلها مضمرة في قول يتكرر دائماً في هذي البلاد منذ 22/5، أقصد القول بأن هذه الوحدة استعادة أو إعادة توحيد.
والحال أن هذا أيضاً وهم راسخ، فالاستمرارية غير قائمة في أي واقع سياسي، لأن الزمان فاعل أصيل في الكائن الحي وفي الجماد وفي المجتمعات الإنسانية، وهو يلد الجديد دائماً. ولو طبقنا مبدأ الإعادة على تاريخنا العربي الاسلامي، فأي وحدة نستعيد؟ الخلافة الرائدة أم الدولة الأموية؟ الدولة العباسية؟ وإذا ما أردنا أن تكون العودة إلى نسق مذهبي ديني، فهل سنختار تجمع أهل السنة أو الشيعة أو الخوارج أن التشبت بلحظة تاريخية يسبقه دائماً، جعلها مثلاً أعلى، وإهمال كل شروط اللحظة، وتعذر استعادها وشروطها، ولذا يختصم حتى الموت أصحاب اللحظات على الماضي حتى اليوم، فيكون المغيب هو الحاضر الذي يختلفون عليه، فتضاعف غربة أصحاب اللحظات- المثل عن الماضي والحاضر.
إن صيرورة صفقة الوحدة خلقت واقعاً جديداً بعد العام 1994، أحدثه هذه المقاومة السلمية في الجنوب بقدراتها الفائقة على التنظيم ووضوح رؤيتها لحاضر الجنوب بعيداً عن أحلام الاستعادة المستحيلة. وهي مرفوضة من قبل الحركة السلمية، ومن قبل نظام 7/7/94 لأنه يرى حتى في أبسط استجابة لمطالب الشعب خسراناً مبيناً مادياً ومعنوياً، فهو لا يقدر البتة على تصور وحدة حتى بشروط 22/5 التي شن حرباً لإسقاطها. ومن هنا فإن في حرب لتسليم مغانمه وإكليل غاره للمهزوم تقوم على أوهام أحلام اليقظة، ولا تليق بمن يفكر في الشأن العام إن كان جاداً.
إن عودة لغة الحرب أبلغ دليل على أن الاستعادة المستحيلة لا تصلح نقطة البداية في أي حل للقضية الجنوبية، كان عنوان افتتاحية صحيفة «26 سبتمبر» الصادرة في 6/3/2008 والصحيفة تصدرها القوات المسلحة -إدارة التوجيه المعنوي والسياسي «الوحدة أو الدم!».
والتوجيه والإرشاد القوي صفتان نقلهما الراحل فتحي رضوان عندما تسلم منصبه الوزاري بعد حركة يوليو 1952 في مصر، وقد قلد بذلك ألمانيا النازية. هذا أصل ففرع هذه الوزارة وأختها الادارة.
8/3/2008
* هناك مفكرون أو فلاسفة أو فنانون كبار لكل العصور وبدلالة عامة رمزية تشير إلى أن ما اجترحوه وابتكروه كان ولا يزال جزءاً هاماً من «رأس المال الرمزي» لغير ثقافة وغير عصر، ولكن من الصعوبة بمكان الزعم بأن هناك من السياسيين من تصدق فيهم الكلمات نفسها، فالسياسة هي جزء من العقل العملي، وهذا أسير عصره، دون أن يعني هذا أن لا يوجد من يعين في غير فترة من فترات سير الزمن السياسي وشروطه ومحدداته دائماً. وحتى صفة الزعيم التاريخي، لا تصلح إلا لمرة واحدة، وتكون مرتبطة تاريخياً بتاريخية صارمة، ونذكر بعبارة ساخرة مشهورة في السينما المصرية للراحل يوسف وهبي «الشرف زي عود الكبريت، ما يولعش إلا مرة واحدة».
 
***
 

بعد نحو عام من المقاومة السلمية
 
 
ودعت المقاومة السلمية الجنوبية عامها الأول. ومن الواضح أنها، رغم كل ما يقال ورغم الوعيد الدموي الذي لا يكل من التكرار في الحديث الرسمي وغير الرسمي عنها، قد بلغت سن الرشد السياسي، وراكمت في خلال العام المنصرم خبرة متوجة بدم الشهداء وعذاب المسجونين والملاحقين، وهذا لون من الرشد يصعب إلغاؤه أو تجاوزه من قبل كل الذين يريدون إما وأد هذا الفعل السياسي الجميل والشجاع أو من يرومون أن يكونوا أوصياء عليه. وهو حدث تاريخي بامتياز خلقه الشعب فهو وحده صاحبه، وهو من يقرر مسيرته ومآله ومصيره. ولذا فإن المقاومة بحاجة إلى مزيد من تشكيل هيئات وكيانات تقدم على ممارسة الديمقراطية في مستوياتها كلها، حتى تكون صورة أمينة لواقع الرفض وإمكان تجاوز الواقع القائم. وفي هذا السياق لا مكان للتساؤل بلْه التشكيك في إمكان استمرار المقاومة. إذ يشهد واقعها واتساعها على أنها صدرت عن طول اختمار أوجد نضجاً وعمقاً عن الأفراد والجماعات؛ لأن طوقاً مدمراً من الظلم جمعهم في صعيد واحد، فوحَّدهم على اختلاف آرائهم وانتماءاتهم الفكرية والحزبية والجهوية، فقد تعلموا في مرحلة اختمار الوعي الطويلة أن التعريف الذي يجمعهم ويدمجهم في هوية سياسية واحدة اسمها الجنوب والقضية الجنوبية، هو الظلم والمظلومون، فرادى وجماعات وجهات. ولم تعد المشكلة اليوم في السياسة اليمنية رد المظالم، وهو غير وارد، ولا المعالجات بالقطعة، ولا التمثيل الرمزي للجنوب في دوائر السلطة أو مضاعفة عدد الوزراء والسفراء من الجنوبيين، لأن بقاء النظام الذي صنع كل هذه المظالم والعاهات السياسية والأخلاقية يحول بين كل نية حسنة إن وجدت والتنفيذ، وقبل ذلك وبعده لا يمكن أن يكون شعل الحرائق هو نفسه الذي يرشح لإطفائها، لاسيما وأن أبسط إصلاح يصطدم بمصالح راسخة للقاعدة الاجتماعية لنظام 7/7/94، والنصر لا يعرف مفهوم التنازل.
إن الفشل المدوي لتجربة صفقة الوحدة لم يصدر عن قصور في هذا الجانب أو ذلك منها، بل في أنها قررت ودبرت في غياب كامل لمبدأ التمثيل الديمقراطي للشعب في الجنوب وللشعب في الشمال، في زمن رسخت فيه مبادئ حقوق الانسان، وفي مقدمتها حق التصدي للظلم وحق تقرير المصير: للفرد والجماعة والأقوام والشعوب. كانت الوحدة فرضاً من أعلى، انفجر باختلاف الفرقاء، ولو كانت تمثيلاً لإرادة الناس العامة لما منيت بالفشل، بعد أن أصبحت ميداناً للصراع بين أصحابها مالكيها، وفجرت لذلك مشاكل التفاوت في التطور السياسي والاجتماعي والثقافي، بين شعبي الجنوب والشمال. وهي وحدة لا يمكن استعادتها في صيغة 22/5/1990، فهذه تاريخ محض، أي لا يمكن استعادته. إن الممكن الوحيد هو أن يقرر الجنوب مصيره. وانطلاقاً من واقع جديد عنواناته: الحرية والمساواة والاخاء، يمكن استئناف الوحدة. أما استمرار هذه الوحدة القائمة، التي تستنجد كل بضع سنوات بـ«الوحدة أو الموت» وطقوس التعمير غير المسيحي بالدم، وتحتاج إلى كل هذا الظلم العميم وعربدة الغطرسة والجهل في تضاعيف الحياة اليومية، فإنه يستحيل أن يكون أمراً يقبله العقل العملي السياسي، والعقلانية الأخلاقية، والمبادئ المؤسسة للعمران والحضارة.
18/3/2008
أ. س
* أطالب بجعل يوم المولد النبوي الشريف عطلة رسمية، وليس في الأمر بدعة، ضلالة البتة كما يقول بعض المرجفين. وتحية لتهامة وحضرموت وعدن والمركز الثقافي المصري بصنعاء.