بُعْبُع الصوملة

بُعْبُع الصوملة - أبوبكر السقاف

منذ سنوات اصبح الحديث عن صوملة اليمن السعيد بحكامه من المسلمات التي لا تحتاج إلى برهان، والمسلمات قد تكون ضرورية في غير علم ولكن على شرط ألا تعود إلى نتائج غير علمية مثل قولنا منذ اقليدس: النقطة ما ليس له طول وعرض. وهذه مقدمة لتعريف الطول والعرض وبقية الأشكال الهندسية. ولكن كلما تعلق الأمر بالوجود الانساني تصبح المسلمات قاتلة. ولذا يجب فحصها حتى لا يكون العقل ضحية خدعة توسلها المكر السياسي لترويج فكرة أو رأي أو حكم سياسي جريح أو مضمر في إحدى الأساطير السياسية، وما أكثرها، فقد سمعنا وقرأنا حتى الإملال أن مشاكل الشمال والجنوب كافة تعزى إلى غياب الوحدة التي تحل العُقد كلها وتقضي على أسباب المشاكل في جذورها. وتبين أن الوحدة الفورية الاندماجية جاءت لا لتضاعف المشاكل وتخلق مشاكل جديدة فحسب، بل وغدت مشكلة المشاكل، دامية الظفر والناب، وأسلمتنا إلى جحيم لا تهدأ نيرانه بل ويزداد مع الأيام استعاراً يراكم الشرور والآلام. ولات ساعة مندم، ولذا فرض السؤال عن جدوى استمرار هذا الجحيم نفسه على الأذهان لأن ما في الاعيان فاجع.
والصوملة منذ أن شرع رأس النظام يخوفنا بها، بعد إنكار طويل واتهام كل من يتحدث عنها وعليها بأنه يضمر شراً وكيداً للوحدة الرائعة، أصبحت موضع شك عند الناس، بل إن الصورة الجديدة للصوملة ذهبت أبعد من القول الشعبي: «خوفه بالموت يرضى بالحمى». رغم أن الوضع الجاثم أضر من الحمى فهو موت بطيء. أصبحت الصوملة تعادل تشظي دولة القبيلة التي لا تستند إلا إلى الرماح إلى شظايا كثيرة، لم يقل أحد كيف يمكن أن يحدث هذا وما شروطه وإمكانه في كل جهة من الجهات الأربع في يمن الوحدة بالحرب. إنها صورة تعتمد على المعروف عن الصومال منذ انهياره الى اليوم، وليست البتة تصوراً بُني على المقارنة الواقعية بين مكونات الصومال ومكونات اليمن في ظل الوحدة. القصور العقلي غائب والصورة حاضرة، وهي دائماً وسيلة الفن والأسطورة لبناء الصورة الفنية أو الاسطورة السياسية، وحظ الاثنين دائماً من المعرفة والتماسك المنطقي ضئيل إلا بالقدر الذي تسمح به اللغة باعتبارها في المقام الأول بنية منطقية تقدم حتى الهلوسة في بنية دالة، ولكن حظها من الخيال والعاطفة وافر وغزير. صورة الصوملة في ظروف اليمن تنتمي إلى هذا الاطار، لا إلى الممكن وفقاً لشروط الواقع القائم في هذه الأيام. ان الامكان وهو دائماً محكوم بالواقع قبل أن يصبح واقعاً يقول إنه يمكن أن يقوم في المدى الجغرافي القائم صورياً في (ج.ي) كيانان أحدهما جنوبي والآخر شمالي فقط، وهذه ليست صوملة، بل نتاج طبيعي للوحدة الفورية الاندماجية التي قامت حرب العام 94 لوأدها، ولذا استعجل وزير خارجية النظام إلغاءها قبل نهاية الحرب. جاء «مشروع» بناء دولة الوحدة بعدها، ولا مفارقة في منطق السياسة الارتجالية اليمنية، وهي ملمح راسخ في الذهنيات والكيانات التي لا تحكم بوساطة المؤسسات، فيقرر رأي فرد أو قلة مصير البلاد دون العودة إلى المواطنين. فكان حصاد الحكمة البدوية أن جاءت حرب الوحدة بعدها، وهنا لا مفارقة أيضاً، لأن الأساس هو الوحدة بالغلبة حيث يحكم «العقل المستقيل» لا العقلانية السياسية، والغلبة عقيدة سياسية عربية مضمرة في تجارب الوحدة كافة.
 هناك ملمح مستمر في السياسة اليمانية، منذ صفقة الوحدة حتى اليوم، هو العجز عن تقديم حلول لمشاكل تتراكم ويزداد تعثر السلطة والمعارضة في ركامها. لأن الحلول التي تطرح، كما حدث منذ وثيقة العهد وقبلها وبعدها، تقوم على سلامة منطقها الداخلي، أي انساق فقراتها وقضاياها الأساسية ومقدماتها، أي أنها صورية، ولا يلتفت واضعوها إلى مدى مطابقتها للواقع ودرجة تعقيد المشاكل والمناخ السياسي والنفسي السائد في البلاد، ولذا تُمنى بالفشل الذريع مطولات تبدو سليمة ولكنها في الواقع تمرينات إنشائية مقطوعة الصلة بالواقع والوقائع، مهما حسنت النوايا.
لقد رفضت السلطة غير مرة مبدأ الفدرالية بين الكيانين الجنوبي والشمالي باعتباره ذريعة للانفصال. أما اليوم وبعد أن تجاوز الفعل السياسي الجنوبي حتى هذه الفدرالية فإن العودة إليه التفاف على واقع سياسي جديد يملأ الأفق السياسي والوعي السياسي وهما معاً قد ودعا وثيقة العهد والحكم المحلي واسع الصلاحيات ضيق الإمكانات وما في حكمه، فهذه كلها لا علاقة لها بواقع اليوم، الذي يعلن أنه يريد استعادة وطن، لا استعادة وحدة لم تكن، أو تقديم حلول ترقيعية لثوب قد أصبح خلقا رثا غير صالح للانتفاع به، يذكر بقول لفيلسوف المعرة. «كثوب اليماني قد تقادم عهده فرقعاته أنا شئت في العين واليد». كان ذلك إملاقاً مادياً، ونعاني من إملاق عقلي وروحي في هذا الزمان.
إن القفز فوق رؤوس الناس كما تم في صفقة الوحدة باسم تمثيلهم «الغيبي» أو «الصوفي» لا يجب أن يتكرر وفي هذه الحال سيكون السعيد من اتعظ بنفسه، فلا يحق لأحد باسم طليعية غائبة سواءاً أكانت أشتراكية أم إسلامية سياسية أم عروبية وحدوية أم دفاعاً عن حمى الدولة القبيلية الذي اتسع بعد 7/7/94 ليشبع نهم العصبية الجامعة في الشمال إلى الغنيمة التي جاءت بحجم دولة وشعب، لأن عاقبته ستكون وخيمه.
لم تعد الغرف المغلقة ومقايل الحوار المستحيل والعقيم هي المكان المناسب لتقرير مصير السياسة، فقد أصبح الشارع السياسي بدلالته الحقيقية والمجازية ميدان السياسة ورحابها المفضل، وعدم أخذ هذه الحقيقة السافرة كشمس الضحى في الحسبان يبرهن مرة أخرى أن الأحزاب تفكر في نفسها داخل حدود مناوراتها لا في الناس ومصالحهم وقوة حضورهم السياسي وتعبيرهم الصريح عن مطالبهم التي ازداد تمسكهم بها بعد نحو عام من الجهر بها في ساحة الحرية في عدن. ودعوا وهم الوصاية وعودوا إلى الشعب.
5/3/2008