الدولة.. فريضة غائبة عند الرئيس وطالبان

الدولة.. فريضة غائبة عند الرئيس وطالبان - طاهر شمسان

بدا الرئيس صالح –كعادته- منتشيا في مهرجان الحسينية الأسبوع المنصرم. وكانت أفكاره مرتبة على نحو جيد. وقد وصف أطرافا في المعارضة (لم يسمهم) بأنهم "طالبان" وأنهم غير مؤهلين لإدارة دولة. والواقع أن رئيسنا لم يكشف هنا إلا عن نصف الحقيقة وأخفى علينا نصفها الآخر، وهو أنه نفسه لا يدير دولة وإنما "يرقص على رؤوس ثعابين" روّضها بمصالح خوف أن تلدغه. فهو يبني أشخاصا لا مؤسسات. وسلطته تستند إلى ثقافة تكافئ الشيخ المؤثر على مائة قبيلي وتهين المعلم الذي يمتلك القدرة على إدارة مدرسة نموذجية تتسع لألف تلميذ نواجه بهم تحديات المستقبل. وهذه طريقة مكلفة جدا في إدارة شؤون بلد محدود الموارد ويفتقر إلى تنمية حقيقية.
 والديمقراطية التي يفاخر بها رئيسنا مفصلة على مقاسه وحده، يجدد بها جلده دوريا كالثعبان، ولا يستطيع حتى عمر ابن الخطاب أن ينافسه فيها. وهي ليست للتصدير إلى دول الجوار، حسب تعبير فخامته. وهذا دليل على أنها بضاعة بائرة غير قابلة للتداول حتى في البلدان التي يعتقد أن المستهلك محروم منها. والرئيس نفسه يعترف بهذا، ويقول إنها سيئة، ولا أسوأ منها، سوى غيابها الذي قد يؤدي إلى حرمان اليمن من حصة المؤلفة قلوبهم. لكنه لا يعترف لمعارضيه بالفضل في استمرار تدفق هذه الحصة.
 تحالف الرئيس صالح لسنوات طوال مع من يسميهم الآن بالطالبانيين. وعنهم أخذ الحديث الشريف: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"؛ فأصبح ينام كالذئب وعينه مفتوحة على الداخل تحرس مصالح أحمد وإخوته وأبناء عمومته. وأنا لا ألومه على ذلك. ولو كنت في الموقع الذي هو فيه لفعلت الشيء نفسه وربما أكثرت من "البوارج" و"الشطار" و"الصوفة" و"الرعاة"، طالما وخطاب المعارضة الطالبانية غير قابل للتسويق إلا داخل دور العبادة التي تحولت إلى مقار حزبية للخطابة والتنفيس. ولا ضير في هذه الحالة إذا تعلق بها كثير من الناس، لأن علة التعلق هو "خوفها" من الله. وعامة الناس عادة لا يبحثون في المنقذ المفترض عما هو أكثر من ذلك. وفي مناخ كهذا تنتج المعارضة جمهورها المطيع، ويعيد الجمهور إنتاج المعارضة التي يطيعها.
 أذكر أن الشيخ عبد المجيد الزنداني استكثر على مارجريت تاتشر قلقها على ابنها، وقال إنها كلفت الخزينة العامة ملايين الجنيهات عندما علمت أنه فُقد أثناء تأديته خدمة العلم في الأسطول البريطاني. وكل هذا من أجل أن يثبت عدم أهلية المرأة للولاية العامة. وشيخنا لا يرى أن أبناء الحكام العرب لا يؤدون الخدمة العسكرية الإجبارية وإنما يخرجون من بطون أمهاتهم جنرالات جاهزين لقيادة الجيوش والشعوب نحو المجهول، في ظل غياب مشروع الدولة. والإنسان، رجلا أو امرأة، يحب أن يكون أفضل من كل الناس، ولا يتخلى عن هذه الأفضلية إلا لفلذة كبده. وقد قيل: "الولد مجبنة ومبخلة. إذا عاش كدك وإذا مات هدكـ".
 لا أحب أن يُفهم من هذا أنني ضد التوريث من حيث المبدأ. فكل شيء قابل للنقاش والأصل عندي هو "المشروع" وليس الشخص. وقابوس جاء نقيضا لوالده. ولو أن أحمد سيكون أتاتورك اليمن فلماذا لا نقبل به ونختزل المسافة الواقعة بين الراهن الذي نرفضه والمستقبل الذي نتطلع إليه. أما أن يدخل أحمد إلى دار الرئاسة من البوابة التي دخل منها بشار أو حتى من بوابة اللجنة العليا لتزوير الانتخابات، فمعنى ذلك أنه يريد أن يتحكم لا أن يحكم. ونحن حتى الآن لم نتعرف في أحمد على ثقافة الحكم، وما لمسناه هو مؤشرات على حضور ثقافة القوة والغلبة مجسدة في سلوك أناس محسوبين عليه يزعمون أنهم يتصرفون بناء على أوامر صادرة عنه ويدمرون أسوار أراض لمواطنين في الصباحة. ولا أعتقد أن إعداد الحاكم المستقبلي يبدأ من الاشتغال على البقع.
 في السباق الرئاسي الماضي ذهب الرئيس صالح إلى جامعة "طالبان" في منطقة مذبح، ونفى عنها تهمة التطرف، وشهد لها بالوسطية. وهذه شهادة مجروحة من سياسي قالها في سياق استعراضي يرمز إلى قوة وضعه التحالفي مع الشيخ الزنداني. وأزعم أن ملالي هذه الجامعة لا يستطيعون انتزاع مثل هذه الشهادة من امرأة مثقفة تحترم آدميتها وتعلم أنهم يرفضون أن يتساووا معها في الدية. وبغض النظر عن عدم التزام هذه الجامعة بقانون إنشاء الجامعات فإن طابعها الأيديولوجي الواضح من اسمها لا يؤهلها لإنتاج بحث علمي حول انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة قابل للنشر في مجلة محكمة مشهود لها بالرصانة العلمية.
 يحسب للرئيس صالح أنه يحتمل النقد حتى وإن كتب بمخالب طيور جارحة. أما طالبان فيضيقون بالموسيقى والرقص والغناء وكل ما له علاقة بالجمال، لمجرد أنهم لم يجدوا عند البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والفقه المتقادم ما يشجعهم على إنتاج باليه إسلامي. وطبقا لهذه الطريقة في التفكير النقلي فإنهم لا يسرقون حين لا يسرقون إلا لأن الله حرم عليهم السرقة، ولو أنه سكت عن هذا الفعل لطبقوا عليه قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة". لقد شعروا بالهزيمة عندما اكتشفوا أن ثلاثين سنة من الخطب العصماء لم تمكنهم من إعادة صياغة عقول كل الناس وفقا لقالبهم الخاص. ونسوا أو تناسوا أن التنوع سنة من سنن الكون وأن البشر لم ولن يكونوا في يوم من الأيام كتيبة منضبطة مثل خلية النحل حتى في عاصمة دولة الخلافة الراشدة.
 لقد كان حزب طالبان يرفض الديمقراطية التي تبدأ من الشعب وتفرض على الحاكم، ولا يقبل إلا بالشورى التي يطلبها الحاكم متى شاء من أهل الحل والعقد. فالديمقراطية -حسب فهمهم لها- شعبية غوغائية تساوي بين الرجل والمرأة، وبين العالم والجاهل. أما الشورى فهي نخبوية يمارسها "العلماء" فقط. وعندما أصبحت الديمقراطية حقيقة من حقائق العصر قبلوا بها ولكن بشرط غير معلن وهو احتكار "الغوغاء". فالأئمة في زمن الديمقراطية لم يعودوا من قريش وإنما من صناديق الاقتراع التي يجب أن تنتصر لدعاة الاقتصاد "الإسلامي" ضدا على دعاة الاقتصاد "الوضعي". أما إذا انبرى من يوضح للناس أن الاقتصاد علم يكتشف ولا يوضع وأن العلوم لا دين لها ولا ملة فسوف تقوم قيامة طالبان.
 خرج حزب طالبان في مسيرات جماهيرية لنصرة سيد خلق الله (ص) كما قال. والذي لا يعلمه كثير من الناس أنه خرج لينصر نفسه متواريا خلف رسول الله. أما محمد ابن عبد الله فقد نصره الله نصرا مؤزرا من فوق سبع سماوات طباقا. ولا توجد مدينة في العالم اليوم إلا وفيها مسجد يتعبد فيه الناس على دين محمد (ص). ولم تعد هناك قوة في العالم المتمدن تستطيع أن تمنع إنسانا من إشهار اعتناقه للإسلام، وهذا بفضل الفريضة الغائبة عندنا، وهي الديمقراطية اللصيقة بالعلمانية. وما يسيء للإسلام هو المركزية الدينية والفقهية التي نريد أن نمارسها على العالم دون أهلية.
 إن صراعنا مع الغرب ليس دينيا، وإنما هو صراع مصالح يجري فيه استخدام الدين مثلما يستخدم في صراعاتنا البينية. وإذا جاز لنا أن نطلق العنان للخيال ونتصور الولايات المتحدة الأمريكية الراهنة وقد أسلمت عن بكرة أبيها ونص دستورها على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدر كل القوانين، فإن الصراع بيننا وبينها لن يتوقف طالما ونحن نعيش فوق بحيرة من نفط. وسيأخذ الصراع بيننا وبينها شكل صراع مذهبي بين أتباع أحمد ابن حنبل وأتباع "وليم جونسون" مثلا، وقد يستعمروننا باسم الخلافة كما فعل العثمانيون من قبل.
 إن الإسلام دين غير مسؤول عن التخلف الذي نعيشه، ولا علاقة له بالتقدم الذي نتطلع إليه وننشده. غير أن التخلف والتقدم يؤثران على فهمنا للدين وقراءتنا له. فالواقع المتخلف ينتج قراءة متخلفة للدين تجسدت في موقف نواب طالبان من النائب أحمد سيف حاشد. والواقع المتقدم يفرز فهما متقدما له نجده عند جارودي وهوفمان ومحمد أسد، وفي سلوك الشيخ حمزة، الأمريكي الجنسية. والقول بأن "الأمة لم تصل إلى ما وصلت إليه من ذل وضعف وهوان إلا لأنها تركت دينها" هو جملة أيديولوجية تتضمن قدرا هائلا من الزيف وتخفي وراءها أهدافا سياسية مؤداها أن طالبان يجب أن تحكم. ومن له رأي مغاير فليبينه.
tahershamsan