ضحايا حرب الصيف... مرضى ومجانين

ما زال في الساحة ما يشير إلى آثار سلبية ومدمرة خلفتها حرب الصيف وصيف الحرب، لا فرق، المهم أن حربا لم تضع أوزارها وصيفا لم تنقشع سحابته إلا بعد ما تم تسريح أعداد هائلة ممن حسبوا على الطرف المهزوم. فيما بعد شكل هؤلاء جمعيات حملت راية الحراك الشعبي المتصاعد منذ ما يقرب من عام. غير أن ثمة مسرحين لم يعد بمقدورهم الانخراط في الأنشطة الاحتجاجية، ولا التوقيع على محاضر الاجتماعات، ولا المشاركة في صياغة البيانات المطالبة بكل الحقوق والرافضة لأنصاف الحلول أو أرباعها؛ لم يعودوا يكترثون لبيانات المعطري ولا لتصريحات النوبة؛ لقد سرحوا من وظائفهم وأخرجوا من أعمالهم وصاروا متقاعدين، وقيل "مسرحين"، وأحيانا "قوى فائضة"، ضاقت بهم ساحات المعسكرات على اتساعها، وأوصدت في وجوههم أبواب المرافق الرسمية، وهي المفتوحة دوما على كل مصاريعها. هنا شريحة واسعة آثرت الصمت على ما يجري؛ "والصمت -لو تدرين- أبلغ من ملايين الخطبـ".
تراكمت فوق رؤوسهم المجهدة هموم المعيشة التي آلت إلى أسوأ حال. ومن هنا وجدوا الباب مشرعا صوب فضاء الجنون. بينما يراوح كثيرون في دوائر تصم منتسبيها بـ"ذوي الأمراض النفسية".
المقدم/ علي محمد، تخرج في الكلية العسكرية، وأخذ يمارس مهامه كقائد عسكري حتى هدأ دوي المدافع التي دشنت ألف ساعة حرب. بعدها وجد نفسه متنقلا من معسكر إلى آخر، ومن كتيبة إلى أخرى، حتى هدّ الترحال عزيمته ونال من قواه النفسية والعقلية التي لم تعد تحتمل المزيد، خلد للراحة وأعفى نفسه من المهام التي لم يدرك الجدوى من القيام بها. الآن انكفأ على نفسه، وبات يصدر أوامره، لكن لا أحد يجيد تنفيذها إلا هو؛ كيف لا وهو وحده المعني بتفاصيلها والقادر على فك شفرتها؟!
وفي الضفة الأخرى من مدينة الضالع يرابط "الفندم محمد" الذي كان يوما ما أركان حرب أحد الألوية الضاربة. وعندما خسر اللواء الحرب انهارت "أركان حرب اللواء"، واتجه شطر السوق وراح يوزع البسمات والنكات على مرتادي السوق، عوضا عن إصدار توجيهات لم يعد ما يبررها. الجميع يعرفونه حاليا، كما لا أحد يجهل حقيقة كونه أركان حرب لواء، لكن سابقا.
القائد العسكري علي مقبل، الذي استمر فترة يعمل في جيش جمهورية اليمن الديمقراطية، تنامى إلى سمعه أن الحرب توقفت، وكان عليه أن ينتظر تداعياتها، التي ليس من بينها الإبقاء على وضعه المادي والمعنوي. وعلى النقيض من ذلك، انتهت مدة صلاحيته، وفقا لتوقيت غير معلن، وعليه البقاء في بيته حتى يتم تشكيل لجنة تتولى تقصي حقائق متعلقة به وزملائه. لكن الحالة النفسية داهمته قبل وصول اللجنة الحكومية. هو الآن يمشي بشكل شبه يومي من وإلى البيت، لكن بخطوات تشي بقائد مجرب ومحارب قديم.
الحالات النفسية، الناجمة عن سوء الأحوال المعيشية والمترتبة على قرارات إقصاء وتسريح، لم تكن حكرا على المنخرطين في السلك العسكري، بل طالت مختلف فئات الشعب.
"قايد"، المدير السابق في أحد فروع مؤسسة النقل البري، شاهد على ذلك. فبعد ما انتهى النصر المؤزر بالفتح المبين، صودرت المؤسسة، وقدمت ممتلكاتها قربانا للمشاركين في زفة المعركة. وأدرك المدير أن لا جدوى من العودة إلى مكتبه، حيث لا مكتب ولا مؤسسة, لا أصل ولا فرع يجمعه ورفاقه. وهناك، حيث الجنون فنون، وجد نفسه متحررا من التقارير المضنية والحسابات الختامية. هناك لا أحد يقصي أحدا، ولا يوجد منتصر ولا مهزوم، لا أحد بإمكانه إصدار قرار يعتبر الآخرين مجرد "قوى فائضة".