سباحة ضد الشعارات الشطرية والتيارات السياسية ومحاولات الدفع للتجديف نحوها.. المشهد الجنوبي.. أمل وحذر يسيران جنباً إلى جنب

سباحة ضد الشعارات الشطرية والتيارات السياسية ومحاولات الدفع للتجديف نحوها.. المشهد الجنوبي.. أمل وحذر يسيران جنباً إلى جنب - باسم الشعبي

وصف عبد القادر سليمان الزامكي مطالب المواطنين، على امتداد المناطق الجنوبية، بالطبيعية والمشروعة، لافتا إلى بروز محاولات من قبل جهات مختلفة لتحويرها وتلوينها.
الزامكي يسير الآن في العقد السابع من العمر. التقيته في مدينة الشيخ عثمان عقب وصولي إليها مباشرة من مديرية طور الباحة بعد قضاء إجازة العيد.
عند خروجي من السيارة القادمة من طور الباحة، 70 كيلومترا غرب مدينة عدن، توقفت على الشارع الرابط بين دار سعد والشيخ عثمان، في انتظار سيارة أجرة تقلني صوب مدينة المنصورة حيث قررت النزول لدى أحد الأصدقاء في منزل متواضع يسكنه بالإيجار منذ نحو عامين.
توقفت سيارة العم عبد القادر الزامكي جانبا استجابة لإشارة مني أطلقتها في الهواء. في البدء لم يكن على علم بمهنتي. وحين أخبرته أني صحفي، صمت قليلا، ثم قال: "شوف، أنا حدثتك بكل صراحة وثقة عن رأيي حول ما يحدث، وإذا أردت أن تنشر كلامي لا أمانع". وأردف بينما كان يمسك مقود السيارة الخصوصي بثبات: "الصحافة اليوم تتسابق على نشر ما يحدث في المحافظات الجنوبية بعلم وبغير علم".
في الطريق إلى المنصورة, دار بيننا حوار طويل. لم تظهر على الرجل علامات تدل على الارتباك أو التردد، بل على العكس فالرجل، الذي بدأ الشيب يكسو جسده ورأسه بوقار، بدا منتعشا، مجيبا على سؤالي الخاص بالأوضاع الحالية في المحافظات الجنوبية دون تحفظ، قال كلاما هاما، كما سيبدو لاحقا, أهميته تنبع من كون الرجل عاصر مراحل ومنعطفات هامة في تاريخ الجنوب.
سكون هل يطول؟
تبدو عدن والمناطق المحيطة بها، وكذا مدينة الحوطة: عاصمة محافظة لحج، وما حولها، أكثر سكونا من ذي قبل. ما يزيد على شهر مر على مشهد الاحتفال بالعيد الأربعين للاستقلال الوطني في ال30 من نوفمبر الفائت. يومها بدت التوقعات التي سبقت الاحتفال كما لو كانت تشير إلى توفر بيئة ملائمة لوقوع صدامات تزعزع الأمن والسكينة العامة. لكن ذلك اليوم مر بسلام، قياسا إلى حجم التوقعات وتحليق الطائرات في السماء التي تحركت تحتها الحشود من لحج إلى عدن.
بإمكان الزائر لعدن أن يطلب كوب شاي حليب في أحد مقاهي الشيخ عثمان أو المنصورة أو كريتر، ليجلس مستمتعا بالارتشاف الدافئ والاستماع المنصت لأحاديث الناس الخائضة في هموم وتطلعات عديدة ستبدو لك متشابهة بالنظر إلى المعاناة القائمة على امتداد الجنوب.
لم تعد المعنويات هابطة, لقد أسهمت الاحتجاجات والتظاهرات في تجديد الأمل ببزوغ عهد جديد يكفل للناس عيشا ميسورا وكريما. بدأ الإحساس بدور الشعوب في صناعة التحولات يتعاظم كل يوم في النفوس.
أمل مصحوب بقلق وحذر كبيرين خشية الإزهاق المبكر له بفعل عامل "التآمر والتسرع الطفولي والتطلع النهم للزعامة". ورغم قسوة المرحلة وجسامة النضال والتحديات الماثلة، يتعهد الناس بحماية نضالهم المشروع حتى تتحقق مطالبهم العادلة التي إذا ما تحققت "ستعيد الوجه المشرق للوحدة فضلا عن مدها بروح جديدة".
وفي قلب الحدث بإمكانك مشاهدة الأمل والحذر يسيران جنبا إلى جنب في صورة واحدة ستبدو غريبة ربما إذا ما علمنا أن رياحا كهذه لم تهب على الجنوب من قبل.
إمكانيات عدن في استعادت حيويتها وصورتها المعتادة وطبيعتها المدنية الهادئة، كبيرة جدا، لأن ما حدث خلال الأشهر والأيام الماضية ابتداءً بساحة الحرية ومرورا بجولة الهاشمي، يبدو جديرا بجعل المدينة وسكانها وزوارها أكثر توجسا وريبة. غير أن عدن تصفع توقعاتك من الوهلة الأولى وتحيلها مباشرة إلى مجرد وهم كاذب، حين تبدو الحركة طبيعية والأصوات هادئة والابتسامات موزعة في كل مكان، وفي سواحلها وأسواقها الشهيرة يتزاحم ناس كثر من مختلف الأجناس.
صور عديدة في المشهد الجنوبي الكبير والمثير، أبرزها سطوعا ووضوحا تلك التي يظهر الناس فيها أكثر تفاؤلا بغد مشرق. والسبب كما يكرر الناس في أحاديثهم: "الصحوة المتأخرة للنفوس".
كيان سياسي جديد
سبقت الدعوة إلى تشكيل كيان سياسي "للجنوبيين" الفعاليات الأخيرة التي شهدتها مديريات يافع. إلا أن كثيرين في عدن ولحج ما يزالون يجهلون ذلك. وإن كان هناك من يعلم فالثابت هو اختلاف الآراء حول الفكرة. ففي الوقت الذي يفضل فيه البعض استمرار التحركات الشعبية والاحتجاجية من دون إقحام الأحزاب والكيانات السياسية، يرى البعض أن القضايا محل المطالبات هي سياسية في الأساس وتحتاج إلى جدولة وتنظيم أكثر، وأن ذلك لن يكون إلا من خلال تيار أو كيان سياسي. والبعض يرى في إيجاد كيان سياسي جديد انقلابا على الأحزاب القائمة، لاسيما في اللقاء المشترك، والتي تشارك بفاعلية في الاعتصامات والاحتجاجات، وإن كان ذلك يتم عبر أنصارها وقياداتها وأعضائها بصورة فردية ولا يتم باسمها كأحزاب لها برامج وأهداف وشعارات محددة، رابطين ذلك بالانتخابات النيابية القادمة.
السباحة ضد الشعارات الشطرية تبدو لازمة عند الكثيرين, إذ أن الغالبية هنا ممن شاركوا بفاعلية في الاحتجاجات والاعتصامات وساهموا في تشكيل الجمعيات والفعاليات المختلفة، ليسوا مع الشعارات المناطقية والاستفزازية التي يتم ترديدها في الاحتجاجات والمظاهرات، لكنهم وجدوا أنفسهم غير قادرين على إسكات بعض الأصوات التي يقولون إنها "تظهر فجأة ثم تختفي ولكن بعد أن تدفع العامة إلى ترديد ما لا قناعة لهم به، معتقدين أنها صادرة عن المنظمين".
واعترفوا، بكل وضوح، بوجود اختلالات في التنظيم والإعداد، تدفع أحيانا إلى بروز مثل هذه الأصوات التي وصفوها بـ"النكرات"، مطالبين بالدقة والحرص في التنظيم وقطع الطريق أمام محاولات حرف المطالب وإظهار بعكس ما يؤمن به غالبية الناس من قضايا وأهداف نبيلة وشريفة.
وعند الكثيرين ممن استطلعنا آراءهم يبدو الاقتناع سائدا بالجمعيات والفعاليات المختلفة في قيادة الشارع بعيدا عن الأحزاب والتيارات السياسية، خوفا من طاولات الحوار التي لا تجدي نفعا ولا تورث حلا، حسب قولهم, والتي دائما ما تلجأ إليها الأحزاب وتنزع نحوها بدلا من الضغط عبر الشارع. إلا أن هناك من يحاول جر الناس، كما يقول عدد من المهتمين والمتابعين في الساحة العدنية، صوب تكوين كيانات سياسية جديدة أو الانخراط فيما هو قائم من أحزاب، كي تبدو نشطة وحيوية على مساحة أوسع حاضرا ومستقبلا. لكن هذه المحاولات، حسب قولهم، ستسهم في شق الصف إذا ما استمرت، وهي بمثابة ركوب موجة الحركات الشعبية العفوية التي بدأت تتلاحم فيما بينها حول مطالب محددة وواضحة في محاولة لدفع الناس للتجديف صوب الحزب السياسي الذي أثبت عجزه، منذ أمد بعيد، عن حل الأزمات.
عبد القادر الزامكي يشعرك كلامه بأنه يريد توجيه رسالة ما للناس قد تبدو مهمة وتتفق مع ما سبق، وقد تبدو عكس ذلك، المهم أنه رد على سؤالي المتعلق بالأوضاع في المحافظات الجنوبية بقوله: "يا عزيزي، مطالب الناس واضحة وعادلة ولا ينكرها إلا جاحد، لكن هناك من يحاول استغلال زخم الشارع لتحقيق أهداف غير شرعية كما حدث في السابق".
وتابع مخاطبا السلطات: "عليها تقع مسؤوليات كبيرة اليوم، وهي حل مشاكل الناس كافة، وعدم السماح لتجار القلاقل والفتن باستغلال الوضع القائم لتحقيق مصالح فردية".
وأضاف فيما يشبه التحذير: "إن لم تفعل فعلينا انتظار الأسوأ".
الزامكي قال إنه عمل جنديا في جيش التحرير إبان الاحتلال البريطاني لليمن الجنوبي، وحاليا متقاعد برتبة عقيد، ويعمل ناقلاً للركاب على سيارته الخصوصي في مدينة عدن لسد متطلبات العيش.