التصفيق لأنفسنا

في بيئة سياسية كاليمن، الاختلاف مفردة مستهجنة لم نتربَّ عليها، وإن كنا تعودنا الخصومة بحدها الأدنى (الفجور) والأعلى (ليس لها سقف أخلاقي لنقف عنده).
تعرفت على أمل الباشا مع ملتقى الشعراء العرب الأول الذي انعقد في صنعاء 2004، وكنت قد قرأت لها بعض الكتابات التي تعد من أروع المراثي التي قيلت في زوجها أحمد طربوش (القومي الناصري) وبعض الكتابات النثرية التي أعجبتني حينها لعدة أسباب، ربما من بينها أن "أملـ" تكتب بمداد الروح كلما اقتربت من عالمها مع أحمد طربوش. قرأت مراثي الأصدقاء والزملاء، وكنت من الذين كتبوا نصاً وصفت فيه (المرحوم) بـ"عاشق سر الحقيقة".
لكنني لم أجد كتابة تتفجر حميميةً تجاه رفيقها (أحمد) سوى كتابتها (أمل). وفي صحيفة "النداء" قرأت أخيراً آخر مراثيها لزوجها، وشعرت أن لغة "أملـ" كلما ابتعدت عن رفيقها تقترض معجم الآخرين بحكم المثاقفة الشفهية، وكلما اقتربت من رفيقها في نهاية المقال اقتربت من روحها ومداد كلماتها: أمل "الشقائق" الذي ترأسه كأهم مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني الثانية، هذا إذا صنفنا الأحزاب كمؤسسات مجتمع مدني أولى، ومع ذلك قام المنتدى بمجمل أنشطته متجاوزاً الأحزاب ومتصدراً الجهود في مواجهة وكشف الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان اليمني إناثاً وذكوراً.
هي لا تعمل بحرفية ومهنية عالية فحسب، ولكنها تعمل باندماج كامل مع هذه القضايا، وبحب لا يمل ولا يضيق بواقع كارثي بامتياز؛ من حيث الاستمتاع بانتهاك آدمية الإنسان، ولهذا نجد التعرض لأمل في حريتها الشخصية وسلوكها وشعرها وملبسها وآرائها... مادة للقذف والتشهير، لن أدافع عن "أملـ" من منطلق أنها طاهرة وشريفة وعفيفة ونموذج للمرأة الصالحة، أعتقد أنني بهذا النهج أكون الوجه المقابل الذي يمارس اعتداءً على خصوصية الأفراد وكينونتهم الخاصة، وأنا هنا لا أتضامن أو أدافع عن "أملـ"، وإنما عن حقي وحقها وحق الآخرين في أن نكون كما شئنا أن نكون، دون أن يصبح اختيارنا ورؤيتنا وسلوكنا في الحياة مدعاة قذف وتشهير من قبل الآخرين، الذين أدمنوا لغة الفجور، إنما يصل هذا الفجور إلى اتهامك بقتل أروع من تحب، فهذا ما لا تتحمله عاطفة المرء؛ لكنها (أمل) التي تستمر في سيرها بروح نضالية تعجبني في شقها الذي لا يلتفت لمثل هذه اللغة المتقيحة؛ لكنها في شق آخر من نضالها وشفهيتها تطابق نموذج الحزبي الشفهي والخطابي، ولعلها خاصية مرادفة لـ"الحزبي اليمني".
أن تألفَ (أمل) بسرعة وتشعر بأن علاقتك بها طبيعية فذلك يعود من وجهة نظري إلى سيكولوجية أبناء تعز القديمة، يمكنك أن تذهل إلى هناك صباحاً أو مساءً وتجلس مع أهلها، تمزح وتتبادل النكات والأحاديث من أول لقاء لك معهم. هي مدينة مميزة بلغتها وعشرتها، وحسن الصحبة، لا تشعر بالغربة في هذه (المدينة القديمة) تحديداً "الأشرفية" و"المظفر" و"عبد الهادي السودي" و"الميدان" و"باب موسى" و"باب الكبير" و"باب المداجر" و"باب النصر"، وهذه الأبواب الأربعة هي محيط مدينة ليس فيها غريب، كلهم من الأتراك والأكراد والشوام والعدين وصبر والمخلاف والحجرية و... مدينة السادة والقضاة والتجار والفالحين والمهنيين، وهذا التنوع النظري لا تجده في الواقع سوى شيء واحد متماهٍ.
القاطنون في هذه المدينة امتزجوا بروح شفافة تجعلك منهم بمجرد أن تقعد معهم لثوان معدودات. ولهذا أستطيع القول إن "أملـ" هي هذه المدينة بتنوعاتها ومساحة حريتها وتسامحها وقبابها ولغتها التي تنطق بإمالة خاصة فيها شجنٌ تجعلك لا تمل الاستماع وتجعلها لا تمل الحكي.
نعم إنها "أملـ" المدينة التي إذا عادت إلى روحها تحدثت بلغة فيها من الحب والتسامح ما يجعلك تصفو، وإن اقترضت من لغة الآخرين أشعرتك بغربة، لأنك تعرف "أملـ" وتعرف تعز.

مقطع من قصيدة "إجهاش" للدكتور/
عبد العزيز المقالح، في رثاء أحمد طربوش:
كان يضحك ملء يديه وعينيه
يمشي على عجلٍ في ثيابٍ من الكبرياء الرصينة والصدق
كانت أغانيه خضراء
في لون سيدةٍ كان يعشقها
(هي كل البلاد)...