النجاشي.. ربعُ قرنٍ من الجنونْ!!

النجاشي.. ربعُ قرنٍ من الجنونْ!! - يحيى هائل سلام

في كل يومٍ قلمٌ جديد، وكل يومين، إلى ثلاثة أيام، او كلما توافر له مبلغ من المال، يقتني جهاز راديو.
على بياضِ الصفحات، وأغلفة السجائر، بالقلم يرسم الخطوط المتعرجة كأيام حياته، ومع الراديو، يقضي ساعات الليل الطويلة، في انتظار السيدة:" ياأغلى من أيامي " انتظارٌ غالباً ما يفوز بالخيبة، وبالضرورة، ينتهي بتكسير الجهاز.
علي النجاشي، 400عام، على حد قوله، له اسمٌ واضحٌ، وله عائلةٌ وبيتْ، لكنْ المرض العقلي استبدل اسمه بالمجنون، وعائلته بالعابرين، وبيته بالشارع. أكثر من ربع قرن من الزمان، والحال هو هذا...
قبل أسابيع، شاهدته على ظهر دراجة نارية، تبدى لي أعقل السائقين على الإطلاق: في أقاصي الجهة اليمين من الطريق الاسفلتي، آخذٌ مساره، وفي خط مستقيم، غير آبهٍ بنداءات التعجب وصرخات الاستنكار المنهالة عليه من كل صوب، ثم إنه لايكتفي بالاشارات الضوئية عند المنعطفات، إنه يوظف يديه إشاراتٍ مرورية.
في مشهدٍ آخر، يتبين أنه أمرض المرضى، وأجنُ المجانين؛ أمام المقهى في منطقة الخشبة قريباً من الشارع العام، بمدينة القاعدة، حيث مقر تواجده الدائم، يرصد المخزنين، وهم يرمون القات من أفواههم الى الأرض، يلتقطه، ويمضي مخزنا ً، ليس بغير تكاليفْ، هي تكاليفُ مؤجلة ٌ، قد يدفعها مرةً واحدة، والموت قد يكون طريقته الوحيدة في السدادْ!
" كُلهْ قاتْ "، قال لي، ويتذكرْ :" زمان كان معي سيارة لاند روفر، احَمِّلْ قات ورُكاب للجعاشنْ ". يأخذُ نفساًعميقاً، وكمَنْ يُفلْترُ الذاكرة : " كُنْكْ أحسنْ واحد يرَقِص الهُنْ، تِتِتْ تِتِتْ تِتْ تِرِتِتْ "!
على كراسي المقهى، أحدهم، وهو من أصدقاء النجاشي القدامى، يُحوِّل حباله الصوتية ولسانه، الى آلةِ عودْ، وعلي يغني، شجنٌ في الصوت قادم من زمن بعيد، أسارع الى القول: تغني الآن لأحمد قاسم. يُصححُ لي : "أحمد بن أحمد قاسم " ويمضي في الغناءْ.
تعَوَدَّ على ارتداء البنطلون، لكنهُ غالباً ما يضطرُ للتحزم بالجنبية، أما لماذا؟، فيجيب :"أفرعْ على نفسي ". وهذا هو الواقع؛ فما من أحدٍ يكفُ عنه أذى الصبية، يركلونه بالأقدام، يرمونه بالحجارة، وأقسى شىء بالنسبة لهُ، عندما يسلبونه القلم أو الراديو. هو مستعدٌ في هكذا ظرف للتعب والإجهادْ، في فعل مطاردةٍ مجردٍ من هاجس الانتقامْ، إذْ كل ما يتغياهُ استعادة مسلوبه، ولاشىء أبعدَ، لاشىء أبعدْ.
هذا ضربٌ من المواطنةِ الصالحة، يستحقُ ماهو أكثر من عنايةٍ أسريةٍ قديمةٍ، على الطريقةِ البدائية، مثل زيارة ضريح ابن علوان، يستحقُ عنايةً طبيةً متخصصةً، مجالاً نفسياً يساعد على التشافي، حبة دواءٍ، أنْ يكونَ لهُ سريرٌ في مشفى.
الأرجحُ أنهما سريرانِ، أحدهُما لهُ، والآخرُ لابنهِ الوحيد: شابٌ أبكمٌ، في ثلاثينيات العمر، وهو في الأحرف الأولى، من أبجدياتِ الجنونْ!
yahyahaylMail