عن حضرموت.. القدوة التي نحتاج.. وضد العنف والعصبوية

عن حضرموت.. القدوة التي نحتاج.. وضد العنف والعصبوية - نبيل الصوفي

أثناء تحليلي الصحفي لخطابات الحملة الانتخابية في سبتمبر الماضي، بدت لي حضرموت هي جديد الديمقراطية اليمنية. الديمقراطية بوصفها خطوة أولى لتوسيع دائرة مراكز القوى كخطوة أولى نحو تسليم القوة للشارع وقضاياه.
وللعلم فحتى الآن ما زلت مقتنعا أنه بغض النظر عن السلبيات التي لا يمكن إغفالها من قرار الرئيس علي عبد الله صالح، يوم كانت تسبق صفته صفة المرشح، بصرف مرتب للموظفين، فإن تلك الخطوة من وجهة نظري، تعد أهم مؤشر إلى تحقق تلك الخطوة للديمقراطية اليمنية، أقصد توسيع نطاق مراكز القوى الواجب "كسبها".
فللمرة الأولى يقوم مرشح بحجم "رئيس" حكم بلادا لقرابة ثلاثة عقود، بـ"رشوة" أكبر دائرة يمكن أن تشارك في السياسة، بعد سنوات ظلت التوازنات المختلفة هي التي تستفيد من الانتخابات في توفير دعم مادي ومعنوي –والأخير رأس مال أطول عمرا- تستخدمه بعد ذلك في دعم موقعها الذي تكون منه البديل للناخب الذي لا تصله خدمة إلا وفقا لرؤية مراكز تلك التوازنات.
نعود لحضرموت، فلقد كانت المحافظة الوحيدة التي استغل رموزها المناسبة للتعبير عن مطالب محددة. أتحدث عن رموز الحملة الانتخابية للرئيس سابقا ولاحقا، وليس للمعارضة. حيث سمعنا في مهرجان سيئون كما في مهرجان المكلا، خطابا مطلبيا واضحا، يقول لـ"صالح": إننا سندعمك ونصوت لك ضد مرشح المعارضة ابن المحافظة ذاتها لتحقق لنا كذا وكذا وكذا... وخلال الانتخابات المحلية كانت حضرموت الوحيدة التي يعقد المتنافسون فيها مناظرات برنامجية، وناقش البعض برنامجه المحلي ملتزما لناخبيه إن صوتوا له بقضايا تخصهم بشكل مباشر.
سأكتفي بهذه الإشارة وأنتقل لأخبار تصلنا من حضرموت، حيث تعقد الغرفة التجارية والصناعية "أول دورة يمنية لعاملات الكوافير". وحيث تهدد نقابة النقل بالإضراب لحماية سيارة أجرة المديريات ولتطبيق لوائح تتعلق بالنقل وحركة السيارات.
حضرموت (ولست أدري إن كانت واصلت ذلك حتى الآن) هي أول محافظة أعلن نوابها من الأحزاب المختلفة كتلة برلمانية واحدة فيما يخص قضايا المحافظة -مع العلم أن "مختلفة" هذه لم تعد تنطبق إلا على المؤتمر والإصلاح اللذين ينتمي لهما نواب المحافظة- كغيرها من محافظات دولة المؤتمر الشعبي العام.
عنها قال لي ذات يوم، محافظها السابق، ووزير الإدارة المحلية حاليا، إن "أغلب أبناء حضرموت يسترخصون الصراعات فيرفضونها". المعنى أن الصراعات سهلة ومن ثم فهي رخيصة لا تتطلب مهارات سوى القدرة على العنف ومثيلها من متطلبات في أحسن الأحوال تبقى المنتصر فيها رهين إفرازات علاقته بخصمه الذي ينهزم تاركا العبء كله على كاهل من يظن نفسه منتصرا.
وفي نعيه لفرج بن غانم، قال د. أبو بكر القربي، وزير الخارجية، إنه لم ينطلق يوما من موقف سياسي في تقييم المواقف. ولذا فمع أنه استقال من حكومة كلفه بها الرئيس علي عبد الله صالح، فقد ظل يقول وفقا لما نقله السفير مصطفى نعمان في رثاء له، إنه لم يوافق على تقدم فيصل بن شملان للترشح للرئاسة، بل كان يقول إن الرئيس علي عبد الله صالح هو أفضل من تحتاجه اليمن في الوقت الراهن.
وبن شملان نفسه، حفظه الله وأكرمه، أنهى مهمته كمحارب نزيه، وعاد لمنزليه في عدن والوادي ليمارس حياته كأن شيئا لم يكن، دون أي محاولات لتحويل المهمة الوطنية لمصدر للكسب الشخصي ماديا ومعنويا. وليس هو من ينقصه أي شيء ليكون ما يريد، بعلمه وجديته.
في حضرموت يبيعون نواة "الدوم" ولست أدري ما تسمى في منطقتك عزيزي القارئ، لكنها ثمرة أشجار "العِلْبـ". ورفعوا نسبة مردود اليمن من العسل والأسماك وحتى الأحجار إلى ملايين الدولارات. وأتحدث عن الأداءات الفردية وليس عن الشركات الكبيرة.
كما قال أحدهم، يقيمون وليمة كبيرة ولا يقدمون الطعام إلا وفقا لاحتياج الحاضرين وبدون زيادة أو نقصان، ولدرء التنميط الذي يعتبر أبناء تلك المحافظة "بخلاء"، قال صاحبنا، ويمكن لمن يقيم الوليمة تلك أن يتبرع بملايين الريالات لعمل ما من أعمال الخير لصالح المجتمع.
في منازل الأغلب منهم ترى معدات تستخدم وبكامل رونقها رغم أنها اقتنيت قبل سنين طويلة.
هي أقل محافظات اليمن، في نسبة حوادث الغش المدرسي. والأمر هنا موقف اجتماعي وليس قرارا سياسيا. وهي الوحيدة التي أعلنت محافظة بدون سلاح في أول أيام الحملة الحكومية ضد متاجر السلاح.
ومع الانكفاء المناطقي الذي يصور به أبناء حضرموت، وأظن مرده للفردية العالية التي تحكم علاقاتهم وحاجياتهم، فإنهم هم من بنوا اقتصاديات دول عديدة من شرق آسيا وحتى أقرب دول الخليج والجزيرة. وتمسكه بكونه "حضرمي" لم يكن في يوم من الأيام مصدر قلق لأي بيئة اجتماعية يجد فرصته في الحياة والإبداع والعمل فيها. ولذا قمناطقيته هي مجرد تعامل واع مع "خيركم خيركم لأهله".
اختصارا، فإن حضرموت، أملا في أن تظل كذلك، هي القدوة التي يتوجب أن تقود اليمن الموحد ثقافيا واجتماعيا لتغيير الحالة التي نعيشها.
لا أتحدث عن محافظة ملائكية، ولا عن مجتمع "مسالم" بالمطلق؛ فثمة مخزون من العنف اللفظي والذهني وحتى السياسي يسكن بين عروق المدنية، وثمة قبيلة "عرزة" فيها، وهناك... وهناك... وهناك...
لكني أتحدث عن فارق كبير بين تلك المحافظة واديها وساحلها، وكل محافظات اليمن. وهذا الذي يجب أن يتغير. ليس لصالح الاستجابة الحضرمية، بل نحن نعول على القدرة الحضرمية للتغيير في باقي محافظات اليمن.
لكل هذا أشعر بعميق الحزن، لما شهدته عاصمة ساحل حضرموت السبت الماضي، والتي قتل فيها أول مواطن يمني كضحية لصراع العبث الخطابي المعارض مع الأخطاء الحاكمة، أو تحالفهما، لا أدري! (المعارض هنا لا ينصرف للأحزاب بل للمواقف المعارضة من أي كانت).
ولأني وبرسالة تلفونية، عاتبت رئيس مكتب الإصلاح هناك، أخي وأستاذي الفاضل المهندس محسن باصرة، بعد أول مهرجان أقيم هناك الشهر الماضي حيث لم أصدق أن قياديا إصلاحيا يجره الغضب من سوء الأوضاع إلى أن يتبنى خطابا سيئا في المقابل، سواء كان ذلك بمنطق الدين أم بمنطق السياسة. وقلت له إن من هزمته عجلة الحياة من شعار وخطاب مناطقي –على غير أغلب التربية الحضرمية التي تتمسك بمنطقتها دون أي عدوانية ضد الآخر- لن يكون منتصرا لمجرد تغير الزمن والأشخاص. فأعترف له -هنا- بخطاب متميز عقب الكارثة المشار لها. فليس بالتحريض والتهييج المناطقي نواجه المظالم. وحضرموت فقدت في ظل حكم الدولة التي يتحدث عنها اليوم، خيرة أبنائها الذين بنوا المحيط وبصمت وقوة.
لست أدري كيف تلقت القيادة السياسية، الخبر، وما إذا كانت استنفرت بسببه. أتحدث هنا عن شخص رئيس الجمهورية الذي لطالما عبر عن تقديره واهتمامه بتلك المحافظة. والسبب -كما يقول- نظاميتها اجتماعيا وخلوها من السلاح.
وكيف كانت فاعلية أداء القيادة المحلية، المحافظ الأستاذ طه هاجر، وأمين المجلس المحلي الأستاذ سعيد بايمين، ومدير الأمن. وغيرهما؟
ولماذا عجزت إذاعتان وصحيفة وإرث ضد العنف، ومثله من القيم في ذلك المجتمع، أن تمنع الرصاص من قتل مواطن، وتحمي الوحدة بوطنية أبناء المحافظة، وتمنع عودة "الاعتقالات العشوائية" التي لا شك لن ينسى ابن تلك المحافظة أن بسببها تشرد أقرباؤه بين المنافي والمقابر؟
وكيف يفكر الآن قادة الأحزاب الذين تقدموا المظاهرة، وسط خطاب تعبوي لا يمكن تبرئته من دم القتيل لمجرد أن الرصاص انطلق من سلاح موظف حكومي؟
وليحفظ الله اليمن من سوء إدارة مكوناته. ورحم الله شهيدك يا حضرموت. وليكن درسا ينقلنا خطوة للأمام، سلطة ومعارضة، بدلا من أن نبقي مأسورين للقاعدة السيئة التي لخصها ذات مرة الدكتور محمد عبد الملك المتوكل، عن اليمني، بأنه إما يقاتل وإما ينام.
إننا نحتاج لحضرموت لتعلمنا شيئا غير القتل والنزق. أما الخطاب العصبوي فسلاح سهل لوأْد حضرموت أولا، ومن ثم كل اليمن.
nbil