إنقاذ الوحدة بالتفكير في أزمتها.. احتقان الجنوب يُعيد اختبار المسلمات الوطنية!

إنقاذ الوحدة بالتفكير في أزمتها.. احتقان الجنوب يُعيد اختبار المسلمات الوطنية! - ماجد المذحجي

سابقاً كان امتياز "الوحدة" بالنسبة لليمنيين أنها مُجردة ولم تخضع للاختبار. كانت شعاراً مهيمناً يكثف احتياجاً عاطفياً عاماً، وجاذبيته تستمد من كونه مشتهَياً وغير متحقق!
 لقد أنتجت "الوحدة اليمنية" كفكرة حيوية ومهيمنة في التاريخ اليمني الحديث، ضمن سياق الأفكار "القومية" التي عصفت بالعالم العربي منذ أربعينات القرن الماضي، وتشكلت تحت ضغط فكرة الاندماجات والتكتلات التي ميزت العالم بأكمله في تلك الفترة. لم تكن الغاية "يمنية" في ذاتها؛ بمعنى أن تكون الوحدة بين المكونات اليمنية هي السقف و"الأمل كله"، بل كانت "العتبة" فقط، باتجاه الوحدة العربية، كما تؤكد معظم النصوص الإيديولوجية والسياسية اليمنية. ذلك الطموح (الاندماجي القومي الشامل) بالطبع تم خفضه بعد بدء تعثر الفكرة القومية، عقب فشل التجربة المصرية السورية وهزيمة حزيران. (رغم الاحتفاظ بهذا الطموح ضمن النصوص العامة وبشكل مجرد وشعاراتي)، وتم الاكتفاء بالإطار الوطني للوحدة، وتغذيته ضمن مستوى تعويضي لليقين الصامت باستحالة تحقق التوحد القومي (بدرجة أقل، كان التأكيد على التوحد الوطني لحماية الإمكانية "الرمزية" على الوحدة العربية، وعدم استحالتها عبر تقديم نموذج يمني)، وبذلك صارت العتبة سقفاً!
دخلت الوحدة لاحقاً في معلب "المزاودة" على الوطنية بين القوى السياسية المختلفة؛ خصوصاً وأنها تتيح ابتزازاً للجماهير الذين أنشأوا علاقة عاطفية حادة معها، وبدأت تهيمن كمطلبية لهم في مواجهة "السياسيين" الذين احتموا بها، وصعدوها للواجهة باستمرار، لتجنب المطلبيات التنموية بالأساس، أو أي شكل من أشكال المساءلة العامة لهم. يمكن فهم ذلك بالتالي: في المعتاد، وعقب الصراعات المسلحة التي حدثت بين الشطرين الشمالي والجنوبي سابقاً، كان يتم توقيع اتفاقية تتعلق بمشروع الوحدة بينهما. الأمر كان أشبه بجرعة "بنج" للعموم، تخدر أي سؤال حول الضريبة الفادحة التي خلَفها النزاع العسكري بين النظاميين!
عقب تحقق الوحدة اليمنية وقيام الدولة الجديدة، أحيل الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي، الذي ميز العهد الجديد إلى امتياز الوحدة فقط، وكنتيجة فورية لها بالضرورة، لم يكن له أن يكون دونها! وعلى الرغم أن في ذلك شيئاً من الصحة، إلا أن السياق الذي تم فيه التأكيد على إيجابية الجملة السابقة كان إيديولوجياً "فرصاً"، ويتجاهل أن أحد دوافع التحول الجديد، مثلاً، هو إنتاج توازنات بين الشريكين اللدودين (المؤتمر والاشتراكي)، ولحماية ومنح الشرعية للقوى والتحالفات التي أقاموها أو ساندوها قبل الوحدة، كلّ لدى الآخر؛ وبالتالي فإن الأمر ليس خيراً كله!
في مستوى آخر، كان السياق السلمي الذي أنجزت الوحدة "الاندماجية" فيه عام 90، مُعلقاً ل "خيرية" الوحدة أيضاً. وقسر الشريك السابق دموياً على الوحدة في صيف 1994 كان مُبرراً بها أيضاً! كانت تلك مقدمة ضرورية تفصح بالضرورة عن التناقضات التي يؤدي لها الاستثمار السياسي "الرديء" لفكرة الوحدة، وتكثيف الخلاص بها، بعد أن بدأت تختبر في الواقع وتخضع لمشاكله. ولم يعد يُكتفى الاحتفاء بتحققها، لتوهم إنجاز التنمية أو إنشاء المواطنة المتساوية!
تبدت واحدة من أهم المشاكل التي رافقت الوحدة بصيغتها الاندماجية أنها أهملت "إحساس" الأفراد والمناطق اليمنية بكيانيّتهم، وأنتج التأكيد الدموي اللاحق تغذية لكيانية جهة (شمالية)، وزعزعة لكيانية جهة أخرى (جنوبية). إن التأكيد على المكان كهوية، هو أحد مستويات التعريف المتعاقد عليها ضمن الجغرافيا اليمنية، وهي معطىً مهم يتم من خلاله تمييز الفرد إيجابياً، أو استضعافه؛ كونها أصبحت عنصراً أساسياً في تقييم مستوى القوى المضافة له. ذلك باعتبار المكان مستوى من مستويات السلطة العامة (الاجتماعية والسياسية). إضافة لذلك أصبح المكان عصبية بحد ذاته، عصبية مستقلة عن العصبيات التي توجد في إطار حيزه (القبلية أو المذهبية... الخ)، وتشكل أحد مستويات التضامن بين الأفراد؛ خصوصاً في حال ضعف العصبيات التقليدية. ضمن ذلك يُعرف الجنوبي من خلال المكان، وبالتالي يشعر أن النفي الذي تعرض في 94 تم في إطار هذه الهوية التي تعرفه عموماً، الأمر الذي يُفهم عبره تأكيده على عدم استدعائه لهويته المذهبية مثلاً، لتعريف نفسه؛ باعتبارها هوية جامعة وفضفاضة، ستضمه مع قطاع أوسع، مثل أبناء المناطق الوسطى (تعز وأب)، لا يتعلق بهم النفي والانتهاك الذي حدث له، ولأن هذا الشكل من التعريف "المذهبي" يرتب فرزاً اجتماعياً مختلفاً عن الشكل القائم الذي تم انتهاكه في إطاره.
تجريد "الجنوبي" من تقديره لذاته، وسلبه التعريف الإيجابي الذي يوفره "مكانه" له، أعقبه تجريد من الحماية وامتيازات الشراكة (في الإدارة لجهاز الدولة، والموارد العامة، والجيش... الخ) مع "الشمالي"، وهي الشراكة التي كانت عنصراً أساسياً في تبرير الاندفاع نحو الوحدة، بجوار العنصر العاطفي، حيث لن يشعر "الجنوبي" بالرعب من الإحساس ب "فراغ السلطة" المفاجئ.
الصيغة السياسية والأمنية التي رتبتها حرب 94، بررت وأتاحت استباحة "الجنوبي" (الخاسر بالعادة، عرضة للفيد في الثقافة اليمنية المضمرة على المستوى المادي والرمزي، حيث يتم استلابه وخفض تمثيله في كافة مستويات الحياة كونه خاسراً، إلى أن يتمكن من إنشاء قوة له تجبر المنتصر على الانتباه له واحترامه) الذي لم يعد معززاً بأي "درع" سياسي أو عسكري أو اجتماعي، يحمي تمثيله العام وموارده ونسق معيشته. وأصبح الموقع الرسمي المحجوز لتمثيل "الجنوبي" (نائب الرئيس، رئيس الحكومة، وزير الدفاع) شكلانياً تماماً، ومفرغاً من أي دور حقيقي، ومولداً للمرارة أكثر؛ كون هذا التمثيل الحاصل الآن في مختلف أجهزة الدولة، والذي يُفترض أن يدل على تمثيل متساوٍ مع "الشمالي"، يصبح تأكيداً على العكس، وغير مرْضٍ أبداً (حيث يصبح "الجنوبي" في أي موقع رسمي مجرد "أراجوز" أو "ديكور"، وفق التداول والتقدير الشعبي القائم، وهو نفس التقدير مثلاً الذي يخص "التعِزّي" في أي موقع رسمي يُمثل فيه. وإن كان لا يسبب نفس قدر المرارة التي يشعر بها "الجنوبي"؛ كون "التعزي" لم يكن يملك "دولة" يشعر بخسارتها، وفقد بسبب ذلك سلطة ونفوذاً وامتيازات متعددة!).
الاحتقان الحاصل في الجنوب الآن، مؤسس على الانخفاض في تمثيله على مستويات متعددة من السلطة، والاستضعاف للتمثيل "القليلـ" القائم، والتعالي على تقدير الفرد الجنوبي لكيانه بسبب انتمائه لمكان "ضعيف" وغير مؤيد بأي عناصر قوة (يمكن بسهولة رفع الصوت بلهجة "شمالية" في مكان جنوبي تأكيداً على قوة وانتماء أعلى لصاحبه)، والسهولة في "استباحة" حقوقه (الأراضي، والوظائف... الخ)، والتمييز في الفرص لغير صالحه، وممارسات إثبات السلطة عليه (عادةً ثمة مسؤول "شمالي" في المواقع الرسمية المهمة في المحافظات الجنوبية، مثل موقع مدير الأمن العام، أو الأمن السياسي، وقادة الألوية والمحاور العسكرية والمحافظين... الخ).
بذلك يصبح التعامل "المؤقت" مع ماهو حاصل من احتقان في الجنوب، والإدارة الطارئة للازمة ضمن ذهنية أمنية، والاستعلاء "الوطني" على "المطلبيه" الجنوبية لكونها جنوبية، محرضاً على رفع درجة الاحتقان، ويوفر أسباباً عميقة للانفجار. "الوحدة"، كشعار وحاجة وعاطفة وواقع قائم، لا تعني نفي "الجنوبي" والاستعلاء على "الظلم" الحاصل له، كما لا توفر ردود الفعل "العصابية" تجاه "الشمالي" القائمة في الجنوب، والتي لا تميز القائد العسكري عن صاحب البسطة البسيط، مبررات لإنشاء "عصبية" شمالية مقابلة تجاه "الجنوبي"، توفر مبررات أخلاقية مريحة لنزع الوطنية عنه، وعدم الإنصات لقضيته ومشاكله الحقيقية. وليست "الوحدة"، ككلمة مجردة، هي الهدف، بل الإنسان الذي تكفل له هذه "الوحدة" الرخاء والتقدم والإحساس بالمواطنة المتساوية، ولا تصبح مُبرراً لانتهاك حقوقه والتعالي عليه.
maged