المختفون قسرياً (6)

المختفون قسرياً (6)

إثارة الاشمئزاز
 
 
سامي غالب
Hide Mail
 
توقعت أسرة «النداء» الأسوأ عندما قررت في أبريل الماضي فتح «ملف المختفين قسرياً» الملف الموحش الراسب في أعماق الذاكرة الوطنية، وإنْ طفا ففي علب مصممة من شعارات جوفاء وزخارف لفظية.
كان التقدير أن البيئة السياسية والثقافية والحقوقية ليست جاهزة بعد لمقاربة الملف بعقل مفتوح وقلب سليم. فإلى الحرب الدائرة في صعدة والحروب الصغيرة الناشبة في العاصمة، والالتهاب المزمن في المحافظات الجنوبية والشرقية، فإن النخبة السياسية في الحكم و(أغلب) المعارضة متورطة، على تفاوت ملحوظ، في جرائم الاختفاء القسري التي وقعت خلال العقود الأربعة الماضية.
 وكان التقدير أن فتح الملف، كيفما اتفق، دون تحوط لسوالب البيئة ومثالب النخبة، سينزل «النداء» منزلاً تطوقه «شياطين التأويل» بما هي الطابور الأول، والأكثر جاهزية ومبادأة، في جيوش دويلات الحرب، المشتبكة غالباً، والمتعايشة احياناً داخل الوطن الافتراضي.
وقد توجب على «النداء»، إذ تُقدم، أن تدفع كل هذه الأخطار بآليات حمائية متنوعة، بعضها ناجز: فإلى «ميثاق شرف» الصحيفة، لزم مراعاة اعتبارات سياسية وإنسانية شديدة الحساسية، تخص أسر الضحايا، والتسلح بوعي شمَّال لخصوصية الملف، وسياقاته التاريخية ومترتباته المستقبلية خصوصاً وأن شواهد عديدة ماثلة تقطع بأن التغطية الموضوعية المعمقة والمستمرة، المنزهة من التحيزات السياسية والعقائدية- ستربك جماعات في الحكم والمعارضة، على السواء، دأبت على مدى سنوات، على تطوير آليات حمائية تحول دون تسرب ضحايا الاختفاء القسري إلى «سوق السياسة» التي يتوزعها حفنة من الكبار (الصغار) لا يقيمون وزناً لحقوق المواطنة في تجاذبهم وتنافرهم، وفي حروب احتكار التمثيل، وإذ يخوضون في المناقصات والمزايدات (الوطنية)، وحين يشنون حروبهم الداخلية، وساعة يبرمون صفقات يخلعون عليها وصف المصالحات الوطنية.
كان الأسوأ منتظراً. وإذ جاء، ففي قالب من الفظاظة والفظاعة. ومنذ نشر أولى حلقات الملف، منتصف مايو الماضي، هاجت شياطين التأويل، ترشق «النداء» ومحرريها، دون أن توفر الضحايا،  بأقذع السباب.
منذ الحلقة الأولى فعَّل الجناة (ومَنْ غير الجناة يستفزه بوح الضحية؟!) آلياتهم للنيل من مصداقية الصحيفة والتزام محرريها المهني والأخلاقي. فعلاوة على دعاوى الإساءة لرئيس الدولة، والتشويش على عدالة الحرب في صعدة، وإحياء ملفات الماضي (لكأن المطلوب أن تحيا أسر الضحايا وحدها في الماضي!)، ومحاولة تفكيك الاصطفافات السياسية والجهوية الراهنة، أطلق الآثمون تهمة المناطقية على الصحيفة، في إسقاط يثير من الاشمئزاز أكثر مما يثير من الغضب.
باسم المصالحات المزعومة، والمراحل الانتقالية، والتسامح المفترى عليه، والوحدات الوطنية التي تجُب ما قبلها، أفلت الجناة دوماً من المساءلة والعقاب، وحُكِم على أقارب الضحايا بالإقامة المؤبدة عند تواريخ اختفاء أحبائهم، واحتفظت الثوابت الوطنية والقضايا الكبرى بقوتها الأدائية الرهيبة، عابرة الأزمان والمصالحات والاتفاقات.
ومن هذه الزاوية حصراً، تتبدى الوظيفة المستقبلية لملف «النداء»، بخاصة مع إعلان وقف النار صعدة، والإشارة صراحة في الإتفاق بين الحكومة وجماعة الحوثي، إلى معالجة ملف المفقودين جراء الحرب هناك.
 
 

***
 
 
 
ذهب يصطاد.. فاصطادوه!!
 
 
- فهمي السقاف

شأنه شأن معظم أبناء قريته عمل صالح سعيد عاطف، المولود في قرية المحلة 1938م (إحدى قرى لحج)، في الزراعة، وتربية المواشي وبيعها، وكذلك بيع المحاصيل الزراعية وهي بطبيعة الحال، موسمية، لينفق من عائداتها على أسرته، ويدخر ما زاد عن حاجته. طموحه وحسه التجاري حفَّزاه للعمل بدأب ومثابرة، ليضاعف مدخراته الأمر الذي مكنه من فتح متجر خاص به في مدينة الشيخ عثمان- حافة «الروضة» لبيع مواد البناء.استمر الشاب القادم من قرية المحلة، بدأبه ونشاطه منمياً تجارته الجديدة (بيع مواد البناء)، اتسعت تجارته وزادت مدخراته، ذلك دفعه لبناء منزل في شارع الحرمين، بالشيخ عثمان. بناء المنزل يشير بوضوح، الى عزم صالح علي للإستقرار والمضي قدماً لدخول القفص الذهبي ليتزوج من ابنة عمه، شمس صالح عاطف ويرزق بتسعة أبناء، سبع إناث وولدين هما عبدالكريم، وعبدالحكيم، أصغرهم.
استمر صالح في دأبه ونشاطه التجاري بنجاح. ودماثة خلقه وأمانته وحسن تعامله مع الجميع من تجار كبار وايضاً مع زبائنه، هذه الصفات التي يتمتع بها صالح، كانت اساس وعماد مهنته لتدر عليه ارباحاً ومكاسب في بيعه وشرائه مكنته من شراء سيارة مرسيدس تحمل لوحة رقم 12682م/الأولى. لم يكن صالح بعيداً عن الهم الوطني، حينذاك (عند انطلاق الثورة وبداية مرحلة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني ) يدرك صالح جيداً أن عليه واجباً تجاه وطنه، وعليه أن يؤديه، لم يبخل ولم يتردد، بل جاد بالمال داعماً بسخاء.
13 يناير 1966م اقتتل الاخوة الاعداء، الجبهتين القومية، والتحرير، عرف هذا الاقتتال في عدن بـ«الحرب الأهلية» بعد أن وضعت هذه الحرب أوزارها، ظلت مشاهدها الدامية ومآسيها حاضرة بقوة في ذاكرة صالح، عذابات تلك الحرب وشراستها زرعت الخوف في نفس صالح على أسرته مقرراً حينذاك بيع منزله في الشيخ عثمان لأحد أقاربه ونقل أسرته إلى منزله الأول في مسقط رأسه بقريته «المحلة».
مساء يوم3/4/ 1972. قرابة الخامسة والنصف وبعد يوم عمل لا يخلو من تغب ومشقة أغلق باب متجره كالعادة، وأدار محرك سيارته المرسيدس (بيضاء اللون) مصطحباً معه ابن عمه درويش أحمد عاطف، الذي كان يتشارك وإياه هواية محببة لنفسيهما، بل انها متعتهما، يروحا عن نفسيهما بعد ان ينهيا أعمالهما بممارسة هواية التجليب (صيد السمك)ككثيرين من أبناء عدن، وكذلك ابناء المدن الساحلية.
اعتاد الذهاب لمنطقة كالتكس بالمنصورة للتجليب بشكل شبه دائم. يروي نجله عبدالكريم صالح، الذي كان عمره حينذاك 11 عاماً ( من مواليد1961) هذه الرواية التي سمعها عدة مرات من العم درويش ومن والدته ومن اعمامه الآخرين، وصلا المكان الذي اعتادا التجليب فيه ضمن عدة اماكن أخرى في المنطقة، لكن هواة مثلهما سبقوهما. ركن صالح سيارته واخرجا عدة التجليب، وشرعا في الصيد، صالح كان ذهنه متجهاً صوب سيارته. لم تعجبه وضعيتها لأن المكان الذي اعتاد أن يركنها فيه سبقه إليه احد هواة التجليب.
علقت بسنارة درويش سمكة، صالح اقترح على درويش الذهاب الى مكان قريب اعتاد التجليب فيه، لوجود مساحة فسيحة تتيح له أن يركن سيارته باطمئنان، درويش تفاءل بالمكان الذي هو فيه قائلاً له: سأبقى أنا هنا واذهب أنت هناك ولا تنس أن تمر علي في طريق العودة. وأردف، قائلاً: «تفرقوا ترزقوا». مضى صالح إلى المكان الآخر، ركن سيارته وأخرج عدته وشرع بالاصطياد (لايبعد المكان سوى أمتار قليلة). يقيناً لم يدر بخلد صالح وهو يصطاد أنهم عما قليل سيصلون ويصطادونه. مجموعة لا يعرف عددهم على وجه الدقة، كانوا يتابعون تحركاته وخطواته، سيارات قليلة تمر بعضها لهواة التجليب كصالح، وبعضهم يأتي ملتمساً نسيم البحر العليل في ليلة صيف، بعيداً عن ضوضاء المدينة. بعذ زهاء عشرين دقيقة أو أكثر قليلاً من مغادرة صالح باتجاه الموقع الآخر الذي اعتاد الاصطياد فيه، وبينما كان الليل قد بدأ يرخي سدوله بعيد مغرب ذاك اليوم، شاهد درويش من موقعه سيارة تمشي على مهل في ذات الاتجاه الذي قصده صالح، لا شيء يثير الشك أو الريبة في تلك اليسارة، استمر درويش بالتجليب، لم يمض كثير وقت، درويش يشاهد من موقعه سيارتين مغادرتين من اتجاه الموقع الذي يتواجد فيه صالح وتمران بالطريق الذي تفصله عنه قرابة 200إلى 250 متراً، لم يكن بوسعه تمييز سيارة صالح. السيارتان تمشيان على مهل، واصل درويش تجليبه بعدها انتبه درويش أن ساعة العودة قد أزفت، بدأ التوتر على درويش الذي كان يلقي سنارته ويرفعها بحركة عصبية، شعر أن انتظاره لصالح طال أكثر مما ينبغي، بدأ الضجر والتبرم من صالح الذي نسي نفسه ولم يأبه لوقت العودة. سيأتي الآن، سأبلغه بأني لن أصحبه مرة أخرى!! طال انتظار درويش واستحال إلى قلق أصبح نهباً للوساوس، قرر المشي الى موقع الذي ذهب إليه صالح. ليرى ما أعاقه، ما سبب تأخره!؟ ويتمتم، اللهم اجعله خير، اقترب من المكان وبدا كمن يصرخ في البرية يا صالح.. صالح ياص....ال....ح. لا رد ولا جواب. لم يدر درويش حينذاك أن نداءه ونداء اسرة صالح وذويه سيتمد ل35 عاماً دون جواب. إلا من رجع الصدى، أجال بصره في المكان الذي اعتاد صالح إيقاف سيارته فيه ليرتد اليه بصره منبئاً إياه أن لا وجود للسيارة.
تذكر السيارتين اللتين مرتا بمحاذاته، تساءل أتراه عاد ولم يمر بي؟! أنسيني؟! قطع المسافة راجلاً حتى وصل جولة كالتكس، أننتظر وصول سيارة أجره أشار لها، وقفت جواره، وركب عائداً إلى منزله في الشيخ عثمان، سأل ما إذا كان صالح أتى؟!
ألم تكونوا معاً؟! لم يأت جاءه الجواب. بلى كنا معاً لكن كل منا كان يجلب في موقع من المواقع التي اعتدنا الاصطياد فيها. سأل اقاربه الذين في الشيخ ما إذا مر بهم صالح، أسرته حينها كانت في زيارة أقارب لهم في الشيخ سألهم درويش أيضاً عن صالح. كل الاجابات التي تلقاها بأنه لم يأت بعد. عادت اسرته للقرية «المحلة». سألوا عنه هناك انصرف ذهن زوجته لعله ذهب هناك لم نره لم يأت. كانت الإجابة. القلق على مصير صالح تملك جميع أفراد اسرته. ثلاثة ايام مرت وهم يسألون أقاربهم وأصدقائه، والإجابه واحدة: لم نره، لم يأت!!
عرف درويش، وبعده أيضاً عرفت أسرة صالح، بأنه أصطيد أو أقتيد سيان، مساء يوم 3/4/1972. وفوق سيارته ومحاط بمتعقبيه كانت سيارة صالح تتقدم سيارة مصطاديه، ليمضي، رحلة طويلة الى المجهول.
يروي نجله عبدالكريم مواصلاً: ذهبت وعمي تتابع جهات الاختصاص، عن والدي نريد معرفة ما حل به، كنت حينها في الثانية عشر من عمري، لكن لا جواب منذ اختفائه قسرياً، ومطالبتنا للجهات المختصة مستمرة نريد أن نعرف مصيره.
ذهبنا لصالح مصلح، وزير الداخلة حينذاك، وكان مقر الوزارة في مدينة الشعب، خاطبناه شارحين له الطريقة التي اختفى بها والدي واننا نريد ان نعرف اين هو؟ وماذا حل به؟! رد علي وزير الداخلية قائلاً:إذهب لـ«محسن» رئيس جهاز أمن الثورة حينذاك (يقصد محمد سعيد عبدالله..) ذهبنا لمحسن رئيس جهاز أمن الثورة مرات عدة، ولكن رده علينا دائماً كان:« إنه غير موجود لدينا أذهبوا لوزير الداخلية»، أجبته بأن وزير الداخلية قال انه عندكم. رد غير موجود عندنا.
قابلت علي ناصر محمد، أردف عبدالكريم قائلاً، هو يعرف الوالد جيداً ويعرف ما قدمه من دعم للثورة، بود ظاهر، صادق، قابلني (يقصد علي ناصر) واعداً إياي: «سأبحث عنه... كان الوحيد الذي مد لنا يد العون والمساعدة، وفي مرات عدة ومناسبات عدة.
باختفاء الوالد قضوا على مستقبلنا، انا لم أكمل دراستي اضطررت للعمل لأضمن لقمة عيش كريمة لاسرة قوامها عشرة أفراد.
كان على شمس صالح عاطف( زوجة صالح) مواجهة أعباء الحياة لأسرة قوامها تسعة ابناء. فقدان شمس لزوجها أبو ابنائها وابن عمها بهذه الطريقة، مثّل لها صدمة عنيفة، اسلمتها لعدوين لدودين هما السكن وضغط الدم، هي مازالت منذ 35 عاماً تنتظر الزوج الغائب عله يطرق الباب الآن مع كل مناسبة كرمضان أو الاعياد الدينية والوطنية تتقد جذوة الأمل في نفسها عله يعود، يفرج عنه وعندما تسمع ما يشاع احياناً حول عودة بعض من اختفوا وحالفهم الحظ ليرجعوا لأهلهم تسكنها حالة ترقب وانتظار عودة الزوج وابن العم لتجتاحها حسرة عندما يمضي الوقت ولا يطرق الزوج الباب.
عديدون تقدموا طالبين الزواج من بناتها، ترفض طالبة من المتقدمين الانتظار حتى عودة الأب!! ألم وأمل في آن.
يكمل عبد الكريم روايته عندما سألته عن مصير سيارة والدة، قال:« لم تظهر إلا في عام 1978 وكانوا يدربوا عليها سائقي تاكسي لأول مدير للنقل البري في عدن آنذاك» طالبنا بها ولم يعيدوها لنا رفضوا!».
ألم يصرفوا لكم راتباً أو معاشاً شهرياً. مطلقاً منذ اختفاء والدي وحتى اللحظة التي اخطابك فيها لم نتسلم حتى فلساً واحداً من أي كان في الدولة سواء هذه أو التي كانت قائمة قبلها قبل الوحدة». اتصل بكم اي من منظمات حقوق الانسان الوطنية أو الاجنبية؟!تقصد المنظمات الوطنية المنظمات المحلية؟ «لم يتصل بنا احد يا أخي، الناس على دين ملوكهم هنا في هذا الوطن. ربما هم أنفسهم لم يحددوا بعد حقوق اي انسان يقصدون!! منظمة ا لعفو الدولية اتصلت بنا واستلمنا منها رسالة من فرعها في السويد 25/3/1994 (تاريخ وصول الرسالة).
وكذلك اتصلت بنا منظمة أخرى ذكرو في مراسلاتهم انهم سيخاطبون الحكومة لمعرفة مصير والدنا. نحن لم ولن نيأس من المتابعة والمطالبة لمعرفة ماحصل لذوينا اذا كانوا؟ أحياء اين هم؟ وإن ماتو» كيف؟ نريد معرفة ملابسات موتهم وإن قتلوا بأي ذنب قتلوا؟! وأين جثثهم وقبورهم؟ وإذا لم نتمكن من الحصول على إجابة لهذه الاسئلة فأولادنا واحفادنا سيواصلون من بعدنا».

 
 
***
 
 
 
ندوة العدالة الإنتقالية وانتهاء حرب صعدة
ماذا عن مصالحة وطنية لا تنتصر للأقوياء وحدهم..؟
 
 
- وضاح المقطري
 
يبقى دائماً في خروج بلد ما من الحرب ما يعني بالضرورة احتمال دخوله في حرب أخرى مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالحرب السابقة؛ ما لم يتم بتر أسباب هذه الحروب وتحقيق سلام قائم. على ثقة تامة بنتائج الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي تم بها إنهاء الصراعات، بتحديد أسبابها وإيجاد بدائلها المنصفة للفئات والطوائف المختلفة داخل المجتمعات المحلية كخطة مثلى لتحقيق العدالة الانتقالية؛ ذلك أن هذه العدالة لا يمكن تحققها بغير إنهاء أسباب الحروب المرتكزة بشكل أساسي في الظلم الاجتماعي الناتج عن سوء التوزيع، واستغلال الموارد الاقتصادية، والهبات الدولية لصالح الجهات والعشائر التي تحسب رموز الانظمة السياسية عليها.
في الندوة الإقليمية عن العدالة الانتقالية والنوع الإجتماعي التي نظمها منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، قُدم الكثير من الأوراق التي تحدثت في مجملها عن العدالة الانتقالية، وإجراءات تنفيذها، وطرق تحقيقها من جوانب حقوقية بحتة، ولم يتم الحديث عن إصلاحات سياسية وديمقراطية واجتماعية لتحقيق هذه العدالة سوى في لمحات ولقطات متفرقة منها ما جاء في الكلمة الافتتاحية لرئيسة منتدى الشقائق أمل الباشا، وأهمها وأوضحها ما قدمه الأخ سامي غالب في مداخلته من أن تاريخ اليمن تاريخ جماعات وليس تاريخ وطن، وهو زاخر بالمصالحات التي تتم بين هذه الجماعات التي يحتكر زعماؤها تمثيلها، فتقوم المصالحات على أسس غير حقوقية تنتقص حقوق الأفراد داخل هذه الجماعات، ما يعني أن مثل هذه المصالحات لا تحقق عدالة من أي نوع، لأنها لا تؤدي إلى التطهر من حمولة ماضي القمع والإلغاء.
قد ينطبق ما قاله سامي غالب على وضع المصالحة الحادثة الآن في صعدة بعد أربع سنوات من حرب لم يكن لها معنى واضح أو محدد، وانتهت مؤخراً باتفاق لم تتضح بنوده الحقيقية بعد، وإن كان على ما يبدو لا يحفظ للضحايا المدنيين قتلى وجرحى ومشردين حقوقهم أو يعيد لهم الاعتبار.
يتطلب الأمر دائماً إعادة البناء الاجتماعي، وتحقيق العدالة التوزيعية في كافة جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وصناعة وعي شامل بحقوق الإنسان والمواطنة والحريات وحركة تنقلات الأفراد والجماعات وحرياتهم الشخصية والجمعية وقناعاتهم الفكرية، ومساهمة كافة الفئات والطوائف والأجيال والأنواع في مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وحينها فقط يمكن الحديث عن قيام ثقافة سلام بديلة لثقافة الحرب.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن إلغاء الانقسامات الداخلية، وإيجاد وحدة حقيقية من خلال مشاريع التنمية ونشر ثقافة و طنية وعلمانية تتجاوز الانتماءات القبلية والدينية أو تلغيها، ما يؤدي بالضرورة إلى إصلاحات قضائية وقانونية تكفل تحقيق المواطنية الخالية من التمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو ا لطائفة أو الدين، وأضع خطاً تحت كلمة «الدين» هنا، كي نتذكر أنه تم ويتم إلغاء الحزن الإنساني فيه، واستخدامه في حروب الإبادة؛ لأن كل طائفة ترى أحقيتها المطلقة في احتكار الحقيقة في وجود دافع اقتصادي غالباً ما يدفعهما بالتالي إلى إلغاء الآخر وحقه في التفكير والوجود.
وعن أطر تحقيق عدالة انتقالية، فإنه ينبغي الانتباه إلى أنه لا بد من معادلة إنصاف تراعي خصوصية كل مجتمع على حدة، من أجل إيجاد تكافؤ بين طريقتي العدالة الانتقالية، وهما المعاقبة القانونية والمصالحة، حيث ان معالجة آثار الحروب في نفسيات الأفراد والمجتمعات المتخلفة قد لا تكون ممكن بالمصالحة وحدها، نتيجة للعديد من الموروثات القبلية والدينية، وتعقد البنيات الاجتماعية والنفسية في المجتمعات المحلية، وبالتالي لا بد من العمل بطريقتي العدالة مجتمعتين مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة توفير كافة الإمكانات التي تحقق الأمان المستقبلي للجناة الراغبين في الإعتراف بخطاياهم من ثارات أو عمليات انتقام قد تحدث لهم من قبل ضحايا مفترضين. وفي رأيي الشخصي أن جيلين على الأقل يتأثران بالحروب ومآسيها، أحدهما هو الذي شهد المآسي بنفسه وعايشها عن قرب، وتأثر بها بعمق، ولهذا فمن الصعوبة إقناعه بمسألة العدالة دون أن يشهد بنفسه عقاباً قانونياً للجناة. فيم يكون الجيل الآخر غير شاهد على مآسي الحرب مباشرة، وإنما جاء على إثرها وطالته آثارها، ما يجعل من الممكن جداً إقناعه بالمصالحة وخلق روح التسامح لديه بواسطة الإجراءات الممكنة على المستويين الحقوقي والاجتماعي السياسي.
ولأنه معلوم أن المجتمعات النامية ما زالت تعطي الدين مساحة واسعة لتحديد قراراتها المصيرية، وبالتالي فإن ثقافة التسامح في المجتمعات الطائفية تواجه بصعوبات بالغة تتمثل في عدم القبول بالتسامح والتصالح مع الطوائف الأخرى، ويتم الاحتكام فيها إلى شرائع تُطبق أحكاماً قضائية غير إنسانية أو عصرية، تتمثل في العقوبات البدنية التي أبرزها الإعدام، كما يحدث في القضاء الإسلامي مثلاً.
إلى ذلك ينبغي أيضاً السرعة في تأهيل مشاريع العدالة الانتقالية سواءً القائمة على المعاقبة القانونية، أو المصالحات وجبر الضرر بالتعويضات المادية والمعنوية، فكلما تأخرت العدالة في الحضور كان حضورها أصعب، إذ تتعمق الآثار النفسية، وربما تمكن الجناة من الهرب، أو قد يموت الشهود أو الضحايا أو الجناة، وفي تأخر تحقيق العدالة تهيئة لصراعات جديدة.
إن استمرار الأنظمة العسكرية والقبلية السياسية الحاكمة المتسببة أصلاً في النزاعات، والمساهمة في حروب الإبادة، يعطل إمكانية تحقيق عدالة انتقالية إلا على هيئة مكرمات تقدمها هذه الأنظمة للشعوب والجماعات، أو بطريقة مصالحات بين الزعماء، على الطريقة التي ذكرها الأخ سامي غالب، تلغي دور الأفراد وتنتقص حقوقهم. وعليه لا بد من الضغط على هذه الأنظمة وإجبارها -بشتى السبل- على القبول بديمقراطية حقيقية تحترم اختيارات الشعوب.
يبقى القول إنه يصعب علينا التفاؤل بإمكانية مصالحة وطنية حقيقية في اليمن، تلغي كل أحقاد وصراعات الماضي، وتعيد عتبار للضحايا، وتكفل حقوقهم، وتعطي للجناة فرصة الاعتراف بخطاياهم والاعتذار عنها، والاندماج في المجتمع دون خوف من نار أو قصاص، فالسلطة دأبت على فتح ملفات منتقاة من الماضي للتشهير بخصومها، أو تأجيج الكراهية، متغافلة عن ملفات كثيرة، وقضايا لا تحصى، ومستمرة في سياسات تنتهك الحقوق في كل مكان كأنها تحرص الناس ضدها، غير عابئة بمطالب شعبية تنشد مصالحة وطنية لا تنتصر للأقوياء وحدهم.
 
 
***
 
 

إدارة مكافحة الإرهاب تحقق في التهديدات التي استهدفت محرري «النداء»
 
 
بدأت الإدارة العامة لمكافحة الارهاب في وزارة الداخلية تحرياتها بشأن التهديدات التي تلقتها «النداء» جراء نشر ملف المختفين قسرياً.
وكان اللواء رشاد العليمي، وزير الداخلية، وجه الخميس الماضي الإدارة بالتحقيق في الموضوع، وذلك بعدما نشرت «النداء» في عددها السابق خبراً عن «مجهولين توعدوا محرريها بالعقاب في حال تابعت الصحفية النشر عن ضحايا الاختفاء القسري».
وكان الزميل فهمي السقاف، الكاتب الصحفي المشارك في تحرير ملف المختفين قسرياً من عدن، تلقى منذ نهاية مايو الماضي اتصالات هاتفية من مجهولين توعدا محرري الصحيفة بالعقاب في حالة تابعت الصحيفة نشر الملف. وتوعد أحد المتصلين محرري «النداء» بتحويلهم الى مختفين قسرياً في حال متابعة النشر.
واستخدم المتصلون لغةً مناطقية وعنصرية حيال الضحايا ومحرري «النداء» وبخاصة رئيس التحرير. واعتبر أحدهم محرري الصحيفة عملاء «يتلقون التعليمات من أسيادهم في الخارج»
ولم تتلق « النداء» أية اتصالات منذ نشر الخبر الأسبوع الماضي.