المختفيون قسرياً (5)

المختفيون قسرياً (5)

22 مايو.. بما هو يوم كارثي في حياة آل البان
 
في العاشرة من صباح 22 مايو 1971، ترجل 15 عنصراً أمنياً من ثلاث سيارات لاندروفر، في موضع بقرية بير جابر بمحافظة لحج، وطلبوا من حسين صالح تيسير البان، وثمانية آخرين من أفراد أسرته مرافقتهم بهدوء لأنهم مطلوبون من الأمن للرد على استفسارات. كان حسين منهمكاً في إصلاح سيارته اللاندروفر، يساعده المهندس الشاب قادري أحمد علي البان. وتواجد أيضاً نجله الأكبر هاشم (15 سنة حينها)، وصهره (شقيق زوجته) أحمد عبدالعزيز البان، وإبن شقيقه سيف علي صالح البان. وكان هناك سلطان، 10 سنوات، وهو النجل الأوسط لحسين. وقد وقف وحيداً ذاهلاً، وهو يتابع أباه وأخاه الأكبر هاشم والآخرين من أسرته، يقتلعون من المكان.
بعد 36 سنة تحدث سلطان وشهود عيان آخرون إلى «النداء» عن نكبة آل البان.
- عدن - فهمي السقاف
 
عمل حسين صالح تيسير البان، المولود في بير جابر 1938، منذ طفولته، في الفلاحة ورعي الأغنام. كانت الجمال وسيلة النقل المثلى في تلك الفترة. كانت تنقل المحاصيل والحطب إلى أسواق عدن والحوطة. وقد أمكن لحسين أن يشتري من مداخراته سيارة لاندروفر، كانت الأولى التي تحلَّ في بير جابر. وإلى المحاصيل والركاب الذين كانت تحملهم السيارة إلى عدن، بادر حسين إلى تيسير فرص أطفال قريته في قهر الأمية. وقد عمل على نقلهم صباح كل يوم إلى مدارس لحج.
كان الشاب العصامي يحصد ثمار كده وعرقه. وقد استطاع شراء سيارة لاندروفر أخرى، خطط لأن يعمل عليها، نجله الأكبر هاشم.
كانت بير جابر ومصعبين والحمراء، وهي القرى التي يقطنها آل البان في لحج، منطقة نفوذ جبهة التحرير، الفصيل المنافس للجبهة القومية التي انفردت بالحكم بعد الاستقلال في جنوب اليمن.
كان حسين عضواً في جبهة التحرير، وكذلك أغلب مجايليه من آل البان، وكان قد تزوج من صالحة عبدالعزيز البان، وقد رزقا بخمسة أبناء، أكبرهم هاشم، وأصغرهم بليل. وكان سلطان واسطة العقد. أما صباح ودرويش فقد ماتا بعد عام من اعتقال الأب.
كان بليل صبيحة ال22 مايو (!) يلعب مع صحبه في القرية، وقد سمع جلبةً في الجوار، وراقب من بعيد، رجال الأمن يقتادون الكبار من أفراد أسرته.
أما صالحة الشابة التي لم تكمل عقدها الثالث، فقد قدِّر لها أن تجسد المأساة المستمرة منذ ذلك التاريخ. ففي «غمضة عين ثورية»، أو بتعبير تلك الحقبة «لحسة واحدة»، فقدت زوجها ونجلها الأكبر وأخاها. وبعد أقل من عام كانت قد فقدت إبنتها الوحيدة صباح، وإبن آخر (درويش) جراء العوز. وقد أمضت، وما تزال، عمرها في انتظار الأحبة. وعندما تحققت الوحدة في 22 مايو 1990، كان مقدراً لها أن تحيا في قلب المفارقة: إنها وحدوية بإمتياز!
<<<
صبيحة 22 مايو 1971 كان حسين وصهره أحمد عبدالعزيز البان (شقيق صالحة) ونجله هاشم وإبن شقيقه سيف علي صالح البان، ينتظرون مهندس السيارات الشاب قادري أحمد علي البان لاصلاح عطب في إحدى السيارتين.
 وصل قادري في التاسعة والنصف من قرية مصعبين، رفقة صالح حيدرة البان وعلي حيدرة البان وأحمد هداس، وتحلَّق الكبار حول السيارة منتظرين، وحمل الفضول عديدون من صبية القرية إلى المكان لمتابعة المهندس الاستثنائي (السوبرمان القادم من قرية مصعبين).
لم ينجز المهندس المهمة، فقد حط 15 عنصراً أمنياً في المكان في مهمة ثورية تطهيرية. علم حسين ورفاقه بأنهم مطلوبون أمنياً لاستجوابهم، مع «وعد خرافي» بإعادتهم «سالمين».
كان رجال الأمن متسامحين(!) فقد تركوا الفتى سلطان وأقرانه، وأخذوا الآخرين. كان الآخرون جميع البالغين المتواجدين في المكان، علاوة على هاشم شقيق سلطان الأكبر، الكان ساعتها في الخامسة عشرة من عمره.
«أذكر جيداً المشهد كأنني أراهم الآن أمامي»، قال سلطان حسين صالح البان المشرف الآن على الخمسين، لـ«النداء». 36 عاماً حتى الآن وهو في انتظار «الوعد الخرافي»: إعادة المقبوض (والمغضوب) عليهم.
لم يعد الكبار إلى قرية بير جابر. لكن «الوعد الخرافي» تجسد بمنطق الشرعية الثورية. فبعد ساعات عاد إلى القرية رجال الأمن. عادوا هذه المرة لمصادرة مشروع عمر «حسين»: سيارتا اللاندروفر. كانت الأولى تحمل لوحة برقم 162 المحافظة الثانية (لحج)، وحملت الأخرى لوحة برقم 718.
لم يظهر أثر للمطلوبين أمنياً رغم متابعة أشقاء حسين، ونجله الأوسط سلطان. لكن السيارتين ظهرتا بعد شهور في مقر شرطة عدن الصغرى. وقد حرر قائد شرطة الشيخ عثمان مذكرة في 22 ديسمبر1971 وجهها إلى شقيقي حسين: علي وناصر صالح تيسير، وإلى نجله سلطان حسين، بشأن مصير السيارتين.
اختار قائد الشرطة أن يصدِّر مذكرته التاريخية كما يلي: الموضوع: سيارات م/ الثانية رقم 162 و718.
ثم أحاط الأخوة علي وناصر وسلطان، بأن «السيارتين المذكورتين أعلاه والتي يملكهما الأخ حسين تيسير موجودات في مقر شرطة عدن الصغرى منذ فترة طويلة، وقد أشعرت الأخ الحداد [ربما قصد قائد شرطة عدن الصغرى] بإشعاركم لاستلامهما دون جدوى».
كان قائد شرطة الشيخ عثمان، يحمل نوايا طيبة تجاه ضحايا «الشرعية الثورية»، وقد أضاف في مذكرته فقرتين بيَّن فيهما مغبة بقاء السيارتين في شرطة عدن الصغرى، وما سيترتب على ذلك من تلفهما، راجياً من أقارب حسين «الحضور فوراً حال استلامكم هذه الرسالة لاستلام السيارات المذكورة والاستنفاع بها».
«لكن أين أخي حسين وأين بقية الأخوة، وماهو مصيرهم»، رد علي صالح البان على مذكرة قائد الشرطة.
وبحسب سلطان، فإن عمه أبلغ قائد الشرطة ما مفاده: «نريد البشر أولاً... نريد مُلاَّك السيارات»! لكن العم الطيب مات عام 1979 قبل أن تتحقق إرادته، لم يعد شقيقه حسين ولا نجله سيف، ولم تعاود المذكرات الرسمية الإشارة إلى السيارتين.
<<<
في 22 مايو 1971 كان حسين في ال34. بعد عام فقدت صالحة إثنين من أبنائها. في 1979 توفي علي صالح تيسير (شقيق حسين، ووالد سيف).
في 22 مايو 1990، انتعشت آمال صالحة وقد بادر سلطان وآخرون من آل البان بمتابعة الموضوع لدى الجهات العليا في الدولة.
بانصرام سنوات الوحدة بهت الوعد الوحدوي، قبل أن يحتل موقعه في «المقبرة الوطنية» إلى جوار «الوعد الثوري».
وفي فبراير 2004 ضاقت سبل الحياة بسلطان حسين صالح البان، فتقدم بملف إلى محافظ عدن (يحيى الشعيبي حينذاك)، مشفوعاً بطلب اعتماد رواتب لأسر المختفين قسرياً: حسين صالح تيسير البان، وهاشم حسين صالح تيسير البان، وسيف علي صالح تيسير البان. بعد 3 أسابيع رد مدير فرع مكتب رعاية أسر شهداء ومناضلي الثورة اليمنية في عدن، على توجيهات المحافظ، قائلاً: «هذا الموضوع قديم، وفرع الهيئة في عدن ليست لديه اعتمادات، وكل شيء معلق بالهيئة في صنعاء».
في الشهر نفسه وجه ناصر عبدالعزيز محمد شيخ آل البان في بير جابر مذكرة إلى المحافظ، أشار فيها إلى الأوضاع الصعبة لأسرة حسين البان، مؤكداً بأن حسين البان وابنه هاشم، وأبن أخيه سيف اختطفوا عام 1971، بالإضافة إلى مصادرة سيارتي حسين.
في 5 مارس 2007 صدر حكم بانحصار ورثة هاشم بن حسين بن صالح، من محكمة الحوطة الابتدائية، وذلك لغرض تقديم طلب باستلام راتب من مكتب رعاية أسر الشهداء. وفي الحكم اعتبر هاشم النجل الأكبر لحسين، متوفياً بسبب القتل في محل مصعبين بتاريخ 22 مايو 1971.
في 6 مارس 2007 صدر حكم آخر من نفس المحكمة بانحصار ورثة المتوفي حسين بن صالح بن تيسير في 22 مايو 1971 نتيجة القتل في قرية مصعبين. وفيه حملت الزوجة المنتظرة صالحة عبدالعزيز وصف الأرملة!
في 10 مارس 2007 صدر حكم ثالث بانحصار ورثة الشاب سيف علي صالح البان المولود في بير جابر عام 1950، والمتوفي نتيجة القتل في 22 مايو 1971. وفيه انحصرت وراثته في والده علي صالح تيسير المتوفي عام 1979! ووالدته سايبة سيف سالم.
بإستثناء أحمد عبدالعزيز البان لا ترد اسماء ضحايا 22 مايو في أي قائمة من قوائم وزارة حقوق الانسان والمفوضية السامية لحقوق الانسان.
ومن جملة آل البان المختفين يرد إسم آخر: أحمد سكران البان المولود في 1945، والمختفي عام 1975، بحسب قوائم المفوضية، وتظهر معلومة أخرى في بياناته تفيد بأنه كان عضواً في الجناح العسكري لحزب البعث.
سلطان أكد لـ«النداء» بأن لم يتلق أي إتصال من أي منظمة حقوقية، محلية أو خارجية. وهو قال متهكماً: يبدو أن هذه المنظمات لا تعتبر المختفين قسرياً من فئة الإنسان الذي تطالب بحقوقه».
اضطر سلطان وبليل ووالدتهما، فضلاً عن والدة سيف، إلى استصدار أحكام بانحصار وراثه، لأحبتهم المختفين لغرض ادراج أسمائهم ضمن المستحقين لرواتب هيئة رعاية أسر الشهداء. وقد حرصوا جميعاً أن يبينوا هذا الغرض الوحيد في الاحكام الصادرة من محكمة الحوطة.
لم يحظ سلطان بفرصة عمل قط، فقد تم تعيينه(!) منذ نعومة أظافره كعنصر من قوى الثورة المضادة. وهو يقطن بير جابر رفقة «الأم». ويعمل أحياناً في الزراعة. وقد حُرم من فرصة متابعة تعليمه. كذلك حال شقيقه الأصغر بليل، الذي يعتاش من سيارة تاكسي يملكها. لكن بليل الذي يسكن عدن الصغرى لم يفكر قط بزيارة مقر الشرطة المجاور للسؤال عن سيارتي اللاندروفر، فهو كما سلطان ووالدته صالحة، ما يزال مؤمناً بالشعار الذي رفعه عمه علي قبل 36 عاماً: نريد البشر أولاً!
 

***
 

طاهش الحرب الذي سرق الفرحة من عبدالمؤمن وأسرته

عبد المؤمن اسم يضاف إلى قائمة المفقودين الذين ابتلعتهم الأرض في غفلة من الزمن. ولد عبد المؤمن لأسرة متوسطة الحال، في قرية الأعبوس بتعز. وكان ترتيبه الخامس بين سبعة أخوة، تميز عنهم بحبه للتعليم، لذلك ترك حضن أمه والقرية ليلحق بأبيه في مدينة عدن. وقد كان الأب يعمل في مطعم صغير في شارع الزعفران بكريتر، وكان عبد المؤمن (حينها) لم يتعد سن الطفولة، لكنه أنهى التعليم الابتدائي في مدارس تعز، وأكمله في مدارس عدن. 
نادرة عبدالقدوس
 
 شطحت أحلامه بعيداً، إلى التخصص في العلوم الزراعية. ولأن النظام السياسي في عدن آنذاك لا يفرق بين أبناء المناطق اليمنية، وكيف له ذلك، وهو الذي كان يرفع شعار النضال من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتحقيق الوحدة اليمنية!! وكان أبناء اليمن جميعهم دون تمييز، يحصلون على حق التعليم المجاني في كل مراحل التعليم داخل الوطن، وعند الابتعاث إلى الدراسات العليا في الخارج، إذ كان لا يفرق بين ابن فقير أوغني، أو ابن خادم أو وزير... وهكذا حظي عبد المؤمن بالحق بالتعليم العالي في الاتحاد السوفيتي ليلتحق بكلية الزراعة في موسكو عام 1975م.
 عبد المؤمن عبده نعمان. من مواليد تعز عام 1952م، الطول: 5 بوصات و5 أقدام، لون العينين: أسود، لون الشعر: أسود.. هذه المعلومات بحذافيرها مسجلة في جواز سفره الصادر في عدن بتاريخ 2/7/1975م. وكان آخر تجديد له في 29/ 6/ 1982 م.
 تخرج عام 1981م ليعمل في محافظة أبين مهندساً زراعياً في مركز الأبحاث الزراعية منطقة الكود. ولم يتبق غير أن يكمل نصف دينه بعد ما تحقق حلمه في التعليم والعمل بالتخصص الذي شب معه.
 خطبت له أمه فتاة من القرية، وكان إحساس أمِّه صائباً، فقد كانت نعم الزوجة المحبة، ونعم الأم الرؤوم، ونعم الأرملة التي حافظت على ذكرى زوجها، الذي لم تعترف برحيله عن دنيانا وعدته فقيداً وحياُ يرزق.. فهو أخبرها بنيته لزيارتهم في القرية حيث كانت مع أطفالهما هناك ريثما تنقضي فترة النفاس، إذ وضعت طفلهما الرابع. "انتظرت الأسرة مقدم الأب الحنون". هكذا وصفته ابنته الشابة " رنا "، الكبرى بين أخوتها، التي التقيتها بعد موعد اتفقنا عليه لسرد قصة الأب، الذي انتظر حتى يهدأ " طاهش " الحرب ليحمل هدايا عيد الأضحى لأطفاله الأربعة، من بينهم المولود الجديد الذي طلب من زوجته أن يحمل أيضا اسمه في بدايته حرف الراء كبقية أسماء أخوته، فهناك غير رنا، " رانية " و " رامي " فليكن اسمه " راني ".. إلا أن طاهش الحرب يبدو أنه تربص بالأب المسكين وهو في طريقه إلى مدينة تعز، ولم يمهله الفرصة لرؤية طفله المولود، وطبْع قبلة شكر على جبين زوجته، التي أنجبت ولداً جديداً إلى جانب الولد الثالث في ترتيبه بعد أختين تكبرانهما.
 لم يعرف أحد سيناريو الخطف أو القتل أو... ولم تجد الأسرة أي دليل يوصلها إلى الحقيقة، التي غابت في الرمال... انتهت الحرب ولم يصل هو إلى القرية. كان يحمل بين ثنايا فؤاده حلماً صغيراً وفرحة كبيرة تجاوزت سعة الدنيا... حسدته الدنيا، كان ذلك في 27/7/1994م.
 تقول ابنته: " كل يوم نعيش في رعب الطرد من البيت الذي يأوينا في الكود، وهو البيت الذي حصل عليه أبي من مركز الأبحاث الزراعية، إذ يقولون إننا لم نأتِ بدليل يؤكد مماته، أو أنه على قيد الحياة، لذا فإنهم أيضاً لا يمنحوننا الراتب لبضعة أشهر... لقد تناسوا أن أبي حافظ طوال الحرب على أجهزة ومعدات المختبر في المركز. أبي لم ينتم إلى أي حزب أو تنظيم سياسي، كان لا يهتم إلا بعمله وبيته وأسرته ". ورنا، الفرحة الأولى لعبد المؤمن، الحاصلة على معدل جيد جداً في الثانوية العامة العام المنصرم في القسم العلمي، يؤهلها للدراسة في كلية الهندسة "برمجة حاسوبـ" بجامعة عدن (هكذا تحلم)، والحاصلة كذلك على منحة مجانية في "الأميدست" لتعلم اللغة الإنجليزية لتفوقها في هذه اللغة بالمدرسة تضيف قائلة: "إننا نعاني من مشاكل كثيرة منها أنهم في مركز الأبحاث يهددونا بقطع الراتب، لا أدري كيف سنعيش بعد ذلك!؟ وأخوتي ما زالوا في المدرسة، فأختي رانية في الثالث ثانوي، وأخي رامي في الثاني ثانوي، أما أخي نديم ففي الثامن ابتدائي.." قاطعتها: " لماذا نديم أليس اسمه راني؟ " ومن خلف ابتسامة حزينة جاءت كلماتها متلعثمة: " كان من المفترض أن يكون اسمه راني، لكن أمي أسمته "نديم" تعبيراً عن ندمها على بعدها عن أبي في تلك الفترة، وعلى حزنها الشديد عليه.. ".
nadra