مدينة تَنزُ.. أرقاً

مدينة تَنزُ.. أرقاً - جمال جبران

(1)
لا أقدام للمدينة ولا خطوات. دائخة وتعبة ولا تود توقفها عن التدخين. كأنها تتعمد ذهابها لحتفها ولا تبالي. لا أقدام للمدينة ولا خطوات. إقامة واضحة تماماً في السكون والسكوت. إقامة خارج الوقت والمواعيد البيضاء. هو ما يوده الكسول هنا ويهواه. إعطاء الجسد راحته القصوى، راحته الأبدية. هو قرار من عاش زمناً لن يعود وأياماً لا مجال لاستعادة ترتيبها الأول وهيئتها الأولى. ما يذهب يستحيل الاتيان به  ثانية، أو هكذا تعتقد.
و"دق القاع دقه لا تمشي دلى أخضر من الله لا مطر ولا شي/ واعمل لحسنك حرز خوف العيون"..
يغني أيوب.. وما يزال
والمدينة لا تلتفت إذ فقدت سمعها!!

(2)
لا أقدام للمدينة... ولا خطوات..
لا ضوء في المدى،
وهي صارت في القفص الذي بطلاء ترابي موحش فقير ويظهر واضحاً حتى في الظلام. وهي صارت إلى التقاعد، مرفوعة عن الخدمة وخارج نطاق الحياة وتحرك الأشياء. ذاتها الحالمة التي لم تعد حالمة. الحالمة التي أرخت نفسها للطرف واقعة تحت رحمة كل شيء، وكل يد هبطت عليها من كل مكان ولم تترك. لا أقدام للمدينة ولا خطوات.
ولا عيون..
المدينة لم تعد تبصر. لم تعد بحاجة مرايا لترى لونها وقد صار ترابياً، كالحاً. لون يشير بأصابعه جهة القيامة والموت. هي ذاتها المدينة التي كااااانت تسكن غيمة!!

و"..دق القاع دقه لا تمشي دلى/ أخضر من الله لا مطر ولا شي/
واعمل لحسنك حرز خوف العيون"
يغني أيوب.. وما يزال
والمدينة لا تلتفت إذ فقدت سمعها!!

(3)
لا أقدام للمدينة.. ولا خطوات
أُخذت حين غفلة أو رفعت رايتها السوداء من زمان فاتحة ظهرها لطفح جلدي نادر لا يحدث سوى مرة واحدة في دورة الحياة ولكائن واحد فقط. طفح جلدي بلون ترابي وبثور تنز على طول ماءً ثقيلاً أسود برائحة رصاص ودم.. وتعب. طفح جلدي بلون ترابي وبثور تنز أرقاً وكوابيس وقراصنة ينهضون ليلاً رائحين في رقصهم على المدى المفتوح.. والناس. ودائماً في انتظار الرصاصة الأخيرة. النهاية والرحمة. النهاية والنوم الأخير. شيء من هنا وشيء إلى هناك.

و"دق القاع دقه لا تمشي دلى/ أخضر من الله لا مطر ولا شي/ واعمل لحسنك حرز خوف العيون.."
يغني أيوب.. وما يزال
والمدينة لا تلتفت إذ فقدت سمعها!!

(4)
لا أقدام للمدينة ولا خطوات.
لا سمع ولا بصر ولا أنامل. لا شيء سوى دخان مصانع، مهربون، أقراص ديزبام، قات ليلي يابس، صبية جاهزون للتصدير، خطف أروح صغيرة لم تجد وقتاً كافياً لخلع ثيابها المدرسي الأزرق، مقيل المحافظ ومبنى المحافظة، باصات زاهر، عيون محلقة في انتظار مداهمات وملاحقات لأفعال فاضحة هنا أو هناك، أعياد وطنية وغير وطنية، كبائن اتصالات تحت الرصد، فرق كروية مهددة دائماً بالهبوط إلى الدرجة الثانية، رئيس تحرير صحيفة رسمية ساهر دائماً على حفظ الأمن والقانون، مخبرون عاطلون عن العمل، عاملون عاطلون عن العمل، كما وحياة عاطلة عن العمل..
و"دق القاع دقه لا تمشي دلى/ واخضر من الله لا مطر ولا شي/ واعمل لحسنك حرز خوف العيون.."
يغني أيوب.. وما يزال
والمدينة لا تلتفت إذ فقدت سمعها!!

(5)
لا أقدام للمدينة ولا خطوات!!
لا شيء سوى دم متخثر في الأزقة ويمنع مرور الهواء. نسوة عاجزات عن التكاثر. صمت موجع حتى العظم وطبلة الأذن. أبناء عاقون أداروا لها ظهورهم وبقوا عراة بلا أحلام. رقاب مخنوقة بربطات عنق. مشاريع مؤجلة تم تعليقها على حيطان غرف النوم، وعلى ذاكرة أولاد مدارس حرموا أحلامهم بحصة ألعاب ممكنة وقت فسحة وفي أيام عطلات صيفية.

و"دق القاع دقه لا تمشي دلى/ واخضر من الله لا مطر ولا شي/ واعمل لحسنك حرز خوف العيون.."
يغني أيوب.. وما يزال
والمدينة لا تلتفت إذ فقدت سمعها!!

(6)
لا أقدام للمدينة ولا خطوات..
كما لم تعد مكترثة لتعاقب فصول العالم والكرة الأرضية.
لم تعد مكترثة بأوراق متساقطة تباعاً عن ظفائر فتياتها تاركة إياهن لمصائر مفتوحة على احتمالات سوداء في مجملها وقاتمة فيما تبقى كأقل ما يمكن تصوره.
لا أقدام للمدينة ولا خطوات..
لا قلب..
ولا حُسن يخشى عليه من قسوة أعين حاسدة.
لا شيء سوى بقايا حياة كانت وتدل على أن نهارات فرح مرت من هناك وكانت تطلع منتظمة في مواعيدها. لا شيء سوى بطون تنتفخ وتروح يوماً إثر يوم في انتفاخها مانعة وصول ذرة هواء إلى كائنات تسكن في الأدوار السفلية.
لا شيء سوى ما كان..
لا شيء سوى أصوات أيوب مغنياً.. وما يزال "إعمل لحسنك حرز خوف العيون.."

(7)
لا أقدام للمدينة ولا خطوات
لا قلب.. لا لون أخضر مائل للبهجة،
لا مطر، لا ماء غير سائل ترابي اللون يهبط عليها بقوة مضاعفاً انخفاظها عن سطح البحر والحياة. لا ماء غير سائل معبأ في أكياس بلاستيكية ضارة بطبقة الأوزون وبالعمليات الحسابية المنظمة لتعاقب الليل والنهار. لا قلب، لا مطر، لا عقارب ساعة تشير للوقت الصائب والمعقول، ليل واحد فقط، ليل واحد طويل فقط، النهارات خارج الحسبة هنا. الضوء زائر ثقيل الظل يستحسن غيابه على طول. ليل واحد فقط، ليل واحد طويل
فقط.
jimy