الجذور التاريخية لاتحاد الدول الثريّة! - نصر شمالي

الجذور التاريخية لاتحاد الدول الثريّة! - نصر شمالي

تنعقد في السابع من تمّوز/ يوليو 2008 قمّة الدول الصناعية التجارية الثريّة التي تمثّل الخمس الذهبي من سكان العالم وتقهر أو تستعبد أخماسه الأربعة الأخرى، واليابان، الدولة الوحيدة من خارج السرب الأوروبي/الأميركي، هي المضيف لهذه الدورة السنوية، وهي أعدّت لضيوفها إقامة تليق بثرائهم ومدنيّتهم، في مقاطعة هوكايدو الشمالية، حيث بحيرات تويا الساحرة والمناظر الخلاّبة، وحيث الهدوء والصفاء بعيداً عن الأعين والضجيج ومظاهرات الاحتجاج المعارضة لاستبداد هؤلاء القادة المرفّهين المتحضّرين الذين أغرقوا كوكب الأرض بالقذارة والدماء!
في هذه القمة سوف يناقش قادة الدول الصناعية الثرية أوضاع العالم نيابة عنه ومن دون توكيل أو تكليف منه، وسوف يقرّرون الكيفية التي يرغمونه بوساطتها على الاستمرار في الانصياع لإرادتهم! فما هي الجذور التاريخية لاتحاد الدول الثرية هذا؟ وهل من حقّ أعضائه تاريخياً الزعم بأنّهم المتمدّنون وحدهم عبر العصور، ومن حقّهم فرض الوصاية على آسيا وأفريقيا لأنّهما لم تعرفا التمدّن عبر العصور؟
لقد تبلورت نواة اتحاد المدن/ الدول التجارية الأوروبية في العام 1241م، وقد كانت تلك المدن حينئذ تعدّ بالمئات وتشكّل المراكز لنظام القنانة العبودي السائد في أوروبا، وقد نما الاتحاد وترعرع واكتمل في خضمّ الحروب الفرنجية (الصليبية كما يسمّونها هم) وهي الحروب التي جعلت الأوروبيين الغربيين والشماليين والشرقيين يحتكًّون لأول مرّة بالمدنية والحضارة، أمّا الأوروبيون الجنوبيون فكانوا امتداداً وتخوماً للحضارة العربية الإسلامية خصوصاً والآسيوية الأفريقية عموماً، وإنّه لجدير بالذكر، كمثال بسيط جدّا، أنّ أولئك الأوروبيين الفرنجة لم يعرفوا المراحيض والحمّامات في بيوتهم حتى القرن الثامن عشر، فكانوا يدخلون معهم إلى غرف نومهم وعاءً يتبوّلون ويتغوّطون فيه في الليل، لا يستثنى من ذلك ملوكهم، وهو ما نطالعه في كتاب (اعترافات جان جاك روسو) وفي غيره من الكتب الأوروبية، بينما نقرأ عن الحمّامات والمراحيض في بلادنا منذ العهد الأموي، أي قبل أكثر من ألف عام!
في العام 1241 المذكور، عندما بدأت تتشكّل نواة اتحاد المدن/ الدول التجارية، كانت أوروبا الغربية والشمالية والشرقية، والوسطى أيضاً، أقرب إلى الهمجية ويغمرها الظلام الدامس، وقد بدأت تستفيد من احتكاكها السلمي والحربي بالبلدان العربية والإسلامية، وكذلك بالبلدان المسيحية على السواحل الشمالية للمتوسط التي كانت بدورها هدفاً للحملات الفرنجية، وقد انطلقت نواة الاتحاد من ألمانيا وهولندا، بادئة بمدينتي هامبورغ ولوبيك، ثمّ انضمّت المدن/ الدول تباعاً ليصبح عددها نحو 64 عندما بلغ الاتحاد أوجه بعد مسار طويل دام مئات السنين، فامتدت فروعه من نانت على اللوار في فرنسا إلى نوفجورود في أقصى الشمال الغربي الروسي، عبر ألمانيا وبولونيا ثمّ روسيا بالطبع، وقد توفّرت للاتحاد في مرحلة متقدّمة من تأسيسه، أواخر القرن الخامس عشر، جميع أسس الدولة الواحدة ومؤسساتها: جيوش وأساطيل بحرية، ومالية مركزية، وسلطات اتحادية تسنّ القوانين وتبرم المعاهدات وتعلن الحرب! وغني عن القول أنّ الاتحاد كان وراء السقوط النهائي للأندلس بسقوط غرناطة عام 1492، وكان وراء اكتشاف القارة الأميركية في العام نفسه، بالمصادفة، وبينما هم يفتشون عن طريق إلى الهند بعيداً عن العرب والمسلمين، وكان وراء اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الخليج العربي فالهند، ووراء رحلة ماجلان وكولومبس وماركو بولو وغيرهم من المغامرين الأشقياء، ووراء اجتياح القارة الأميركية والقارة الأفريقية وإبادة شعوبهما، ووراء جميع الأحداث الانقلابية العظمى التي نقلت العالم من العصر العربي الإسلامي إلى العصر الأوروبي، والتي وقع أعظمها وأهمّها ما بين العامين 1492 و1521م، وانتهت بإغلاق الثغور في وجه الأمة العربية، مضيق جبل طارق ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، وبإحكام الحصار ضدّها وإغراقها عمداً في الظلام حتى يومنا هذا!
لقد كان ذاك الاتحاد الأوروبي نفسه وراء إنهاك الرابطة العثمانية من داخلها على مدى أكثر من قرنين، ثمّ وراء تدميرها وانهيارها النهائي، واقتسام بلدانها كمستعمرات محتلة استعبدتها دوله في القرن العشرين، وهو من وضع ونفّذ اتفاقيات سايكس/ بيكو، ووضع ونفّذ مشروع الكيان الصهيوني في فلسطين، حيث هذه الإجراءات جميعها تضمّنها مشروع لجنة رئيس الوزراء البريطاني كارل بنرمان الذي أعدّ انطلاقاً من مصر في العام 1907، واشترك في إعداده ممثلون من معظم الدول الأوروبية، وأوصى بتدمير الأمة العربية وبإقامة حاجز غريب يفصل شرقها عن غربها كي لا تنهض أبداً من كبوتها التاريخية!
وعندما نستمع اليوم إلى بوش الأميركي وساركوزي الفرنسي يتحدّثان أمام صنيعتهما الكنيست الإسرائيلي بتلك الحميمية، فإنّه لمن الجدير بنا أن نرى اتحاد المدن/ الدول التجارية وراء مثل هذه الأحاديث، منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا، أي على مدى ثمانية قرون تقريباً، وأن نراه بأشكاله وبأساليبه الحديثة في العراق والسودان والصومال وأفغانستان، فليس ممكناً أبداً فهم ما يحدث اليوم منفصلاً عما بدأ في العام 1241 واستمرّ متواصلاً بلا انقطاع في تعامله عدوانياً مع أمتنا والأمم الأخرى حتى الآن، ولا يمكن لنا أبداً أن نحقق الخلاص إذا لم نربط بين اتحاد المدن/ الدول التجارية القديم واتحاد الدول الصناعية الحديث، وإذا لم نربط بين سقوط غرناطة وبين سقوط القدس وبغداد!
نعود إلى اتحاد الدول الصناعية الثريّة الثماني الذي ينعقد هذا العام في اليابان، فنقول إنّه الاستمرار التاريخي والواجهة المعاصرة لاتحاد المدن/الدول التجارية القديم، وأنّه المؤسسة الأعلى في هرم النظام الدولي الطبقي العنصري الحالي، يساعده عدد كبير من المؤسسات المتنوعة الاختصاصات والمهام، بحيث تستطيع المؤسسة الأعلى الإحاطة بأدقّ التفاصيل الدولية والسيطرة عليها، لكنّ جملة من التطورّات التاريخية الموضوعية التي يشهدها العالم اليوم أصبحت تهدّد سيادة هذا النظام الدولي الظالم، فقد ضربه الفساد في نخاعه الشوكي، وأنهكته أكثر فأكثر مغامرات وحماقات قيادته الأميركية المستبدّة، وهدّد هيمنته جدّياً صعود الدول الناهضة وفي مقدّمتها الصين والهند، وأرهقته المقاومات العربية والإسلامية التي جعلته يتجرّع كأس الفشل المرّ كما لم يحدث له من قبل أبداً، إضافة إلى تطوّرات أخرى لا مجال لاستعراضها هنا. وهكذا نستطيع القول بأنّ العالم ربّما أصبح على وشك التحرّر من هذا النظام العنصري الربوي، وإقامة نظام إنساني عادل على أنقاضه!
ns_shamaliMail